الثبات على الحق سبيل نصرة أهل الإيمان (2)
استكمالا لما بدأنا الحديث عنه في المقال السابق عن الثبات على الحق؛ حيث ذكرنا أن أهل الحق أحوج ما يكونون إلى الثبات عليه؛ ليتحقق لهم أملهم المنشود في بناء الشخصية المؤمنة التي يغير الله بها الإسلام ويُمكِّن لأهله في الأرض، وذكرنا أن ثبات القلب هو أصل ثبات البدن، وذكرنا بعض العوامل التي تعين أهل الحق على الثبات على دينهم، وذكرنا منها الدعاء بالتثبيت، واليوم نستكمل هذه العوامل.
طاعة الله -عزوجل- من عوامل الثبات على الحق: إن من تيسير الله -عزوجل- على العبد أنه لم يكلفه إلا بما يطيق؛ فعلى العبد إذاً أن يحمد ربه على ذلك؛ حيث أمره بما يطيق فعله، ونهاه عما يطيق تركه؛ فالعبد لو فعل ما طلبه الله منه في كل وقت بحسبه وبذل همته في سبيل تحقيق ذلك؛ فإن الله -عز وجل- سيمنحه الأشياء التالية وما أعظمها:
- الأول: أن يجعله من الأخيار المتصفين بأفعال الخير، وهذا يستلزم انتفاء صفة الأشرار عنهم.
- الثاني: أن يزيد في تثبيته على الحق بسبب طاعته لله -عزوجل- واستمراره على ذلك.
- الثالث: أن يمنحه الأجر العظيم في الدنيا والآخرة.
- الرابع: أن يهديه صراطه المستقيم وهي أعظم نعمة؛ فلا نعمة أتم ولا أكمل ولا أنفع من أن يهدي الله عبده صراطه المستقيم، قال الله -عز وجل-: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا . وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (النساء:66-68).
طاعة صحابة النبي صلى الله عليه وسلم
ولقد كان لطاعة صحابة النبي صلى الله عليه وسلم لله -عزوجل- ولرسوله صلى الله عليه وسلم لما رجعوا من أحُد إلى المدينة؛ فندبهم صلى الله عليه وسلم إلى الخروج إلى حمراء الأسد مع ما بهم من الجراح والآلام؛ فكان لهذه الطاعة الفورية أثر عظيم في أن نصرهم الله -عز وجل- بالرعب الذي ألقاه في قلوب أعدائهم؛ فرجعوا إلى مكة، وعاد أهل الحق سالمين إلى المدينة، فائزين بأجر غزاة مكة دون قتال، قال الله -عزوجل-: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (آل عمران:172-174).
الإكثار من ذكر الله
فالإكثار من ذكر الله -تعالى- من أعظم ما يعين على الثبات على الحق في وجه أعداء الله، والنصر عليهم، وذلك امتثالاً لأمر فاطر السموات والأرض، قال الله -عزوجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأنفال:45).
الاقتداء بالصالحين
الاقتداء بالصالحين طريق إلى الثبات على الحق: وأعظم الأمثلة على ذلك وأعلى من يُقتدى به في ذلك، بل هو المثل العملي الأروع في الثبات على الحق، رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا عَمِلَ عَمَلاً أَثْبَتَهُ وَكَانَ إِذَا نَامَ مِنَ اللَّيْلِ أَوْ مَرِضَ صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَىْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، قَالَتْ: وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ وَمَا صَامَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا إِلاَّ رَمَضَانَ» (رواه مسلم).
كان صلى الله عليه وسلم أثبت الناس
وكان صلى الله عليه وسلم أثبت الناس في مواجهة أعداء الله، وما ولاهم ظهره أبدًا، وكان يثبت أصحابه في المواقف العصيبة، ومنها ما حدث يوم حُنَين، كما يقول البراء رضي الله عنه حين سأله رجل: يَا أَبَا عُمَارَةَ أَفَرَرْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنَّهُ خَرَجَ شُبَّانُ أَصْحَابِهِ وَأَخِفَّاؤُهُمْ حُسَّرًا لَيْسَ عَلَيْهِمْ سِلاَحٌ أَوْ كَثِيرُ سِلاَحٍ فَلَقُوا قَوْمًا رُمَاةً لاَ يَكَادُ يَسْقُطُ لَهُمْ سَهْمٌ جَمْعَ هَوَازِنَ وَبَنِي نَصْرٍ فَرَشَقُوهُمْ رَشْقًا مَا يَكَادُونَ يُخْطِئُونَ فَأَقْبَلُوا هُنَاكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَقُودُ بِهِ؛ فَنَزَلَ فَاسْتَنْصَرَ وَقَالَ: «أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ). ثُمَّ صَفَّهُمْ». (متفق عليه).
وهو الذي ثبته ربه من فوق سبع سموات بقوله -عز وجل-: {وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (هود:120)، وقوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف:35)؛ فإن النفوس جبلت على الأنس الاقتداء، ويتأيد الحق بذكر شواهده، وكثرة من قام به.
تدبر القرآن
تدبر القرآن والعمل بما جاء به من أعظم ما يعين على الثبات على الحق: فالواجب على أهل الحق تدبر القرآن واستخراج الدواء منه، لعلاج الأمراض والفتن حسبما تقع، وهذا فيه اقتداء بالرب -عز وجل- في تدبير حال رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ حيث أنزل عليه القرآن مفصلاً وقتًا بعد وقت، وتواردت عليه آياته شيئًا فشيئًا؛ فكان ذلك سببًا في تثبيت قلوب صحابته صلى الله عليه وسلم حتى صارت أثبت من الجبال، واكتملت بآيات القرآن هدايتهم الهداية التامة التي استحقوا بها سكنى دار النعيم؛ قال الله -تعالى-: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل:102).
الثقة فيما عند الله -عز وجل-
فإن المؤمن دائمًا يثق بربه، ويثق فيما عنده من موعود لأهل الحق، وهذه الثقة كانت من أهم عوامل ثبات الصادقين -رضي الله عنهم- والنصر على الأعداء، وهي التي جعلت صحابيًا جليلاً مثل أنس بن النضر رضي الله عنه الذي غاب عن غزوة بدر أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غِبْتُ عَنْهُ أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ أَرَانِيَ اللَّهُ مَشْهَدًا مَعَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ؛ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ، قَالَ: فَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا؛ فَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْعَامِ الْقَابِلِ؛ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ؛ فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرٍو أَيْنَ؟ قَالَ: وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ أَجِدُهَا دُونَ أُحُدٍ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ؛ فَوُجِدَ فِي جَسَدِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ مِنْ بَيْنِ ضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ؛ فَقَالَتْ عَمَّتِي الرُّبَيِّعُ بِنْتُ النَّضْرِ: فَمَا عَرَفْتُ أَخِي إِلاَّ بِبَنَانِهِ. (رواه مسلم).
موانع الثبات على الحق
كما أن هناك موانع ينبغي أن يحذر منها أهل الحق، تحول دون تحقيق الثبات عليه، ومن أهمها:
الذنوب والإسراف
فالمعاصي والذنوب والإسراف من أعظم أسباب الخذلان؛ فالذين خالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد -وهم الرماة- كان عصيانهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو من أهم أسباب ما حدث له ولأصحابه -رضي الله عنهم-.
ويوم حنين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفًا، والمشركون أربعة آلاف؛ فأعجب بعض المسلمين بكثرتهم وقالوا: لن نغلب اليوم من قلة؛ فحمل المشركون عليهم حملة واحدة؛ فانهزموا ولم يبقَ مع رسول الله[ إلا نحو مائة رجل ثبتوا معه، ونادى العباس بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنصار وبقية المسلمين: يا أصحاب سورة البقرة؛ فلما سمعوا هذه تجمعوا ووثبوا على أعداء الله وثبة رجل واحد حتى انتصروا وهزم الله المشركين، واستولى أهل الحق على نسائهم وأموالهم؛ يقول -عز وجل-: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}(التوبة:25-26).
التنازع في أمور الدنيا
وهو من أهم ما يوجب الفشل والخذلان، ويضعف العزائم، ويفرق القلوب ويشتتها، ويبدد القوة، ويقف عائقًا ومانعًا دون تحقيق وعد الله بالنصر المرتبط بطاعة الله ورسوله[، قال الله -تعالى-: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال:46).
الركون إلى أعداء الله -تعالى-
وهو أيضًا من أعظم الموانع التي تحول دون الثبات على الحق، ذلك أن أعداء الله يسعون دائمًا وبالطرق كلها لاستمالة أهل الحق، حتى يركنوا إليهم، ويتركوا ما هم عليه من الدعوة إلى الحق، والصبر في سبيله، والثبات عليه، وكل ما يتمناه أهل الباطل هو تحقيق هذا الميل لهم من جانب العصابة المؤمنة؛ فيفقدون بذلك تثبيت الله لهم؛ قال الله -عز وجل-: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} (الإسراء:74-75)، وقال أيضًا: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ}(هود:113).
لاتوجد تعليقات