رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: علي حاتم 15 يناير، 2019 0 تعليق

الثبات على الحق سبيل نصرة أهل الإيمان (1)


ما أحوج أهل الحق إلى الثبات عليه؛ ليتحقق لهم أملهم المنشود في بناء الشخصية المؤمنة التي يغير الله بها الإسلام ويُمكِّن لأهله في الأرض؛ فالثبات على الحق من نعم الله على المؤمن؛ فأعداء الله -عزوجل- في كل زمان ومكان حريصون على فتنة أهل الحق بكل السبل، والكيد لهم، حتى يجيئوا بما يوافق أهواءهم، ويتركوا القول والعمل بما أنزل الله، لو فعل أهل الحق ذلك ووافقوهم على مرادهم، لصاروا أحبَّ الناس إلى أعداء الله، ولكنَّ الله -عزوجل- يثبت أولياءه ويحول بينهم وبين الاستجابة لهذه الفتن بما جبلهم عليه -عزوجل- من حب الحق والسعي في سبيله، والتبصر بمراد أعدائهم ونواياهم الخبيثة، قال الله -تعالى-: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} (الإسراء:73-75).

ثبات القلب هو أصل ثبات البدن

     وحين أنعم الله -عزوجل- على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى صحابته بتثبيتهم في مواجهة أعدائهم يوم بدر، ثبَّت قلوبهم أولاً؛ ذلك أن تثبيت القلوب هو الطريق لتثبيت الأبدان؛ فأنزل الله المطر على أهل بدر؛ حيث طهّرهم به وربط به على قلوبهم، قال الله -عز وجل-: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} (الأنفال:11).

أهل الثبات

     الثابتون على الحق في الدنيا، هم أهل الثبات عند الموت وفي القبر: فالله -عزوجل- يثبّت أهل الحق الذين قاموا بما عليهم من الإيمان القلبي التام، الذي هو التصديق اليقيني المستلزم لانبعاث الجوارح بالعمل الصالح؛ فيثبتهم الله في الحياة الدنيا أمام ما يعرض لقلوبهم من أمراض الشبهات والشهوات؛ فالله -سبحانه- يهديهم إلى اليقين الذي يزيل ما قد يرد من الشبهات.

     ومن الأمثلة التطبيقية على ذلك ما حدث للإمام أحمد -رحمه الله- في محنة خلق القرآن؛ حيث هداه الله إلى اليقين، وثبته في مواجهة أهل البدع والأهواء؛ فأعز الله بهذا الإمام الجليل الإسلام وأهله، وقمع به أهل البدع إلى يوم الدين، كما أن الله -عز وجل- يهدي أهل الحق بالإرادة المعنوية على تقديم ما يحبه الله -تعالى- على هوى النفس ومرادها؛ وذلك عند ورود أمراض الشهوات.

الإرادة الجازمة

     بالإرادة الجازمة ثبّت الله نبيه يوسف -عليه السلام-؛ حيث راودته امرأة العزيز عن نفسه؛ فثبّته الله -عز وجل- في هذا الموقف العصيب: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}(يوسف:23)، هؤلاء وغيرهم من أهل الحق في كل زمان ومكان، الذين دعوا إليه وصبروا في سبيله هم أهل الثبات عند الموت وفي القبر؛ قال -عز من قائل-: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (إبراهيم:27)؛ فيجازيهم ربهم عند الموت بالثبات على الدين وبحسن الخاتمة، وفي القبر عند سؤال الملكين بتوفيقهم إلى الإجابة الصحيحة.

منحة لأهل الحق

     إلقاء الرعب في قلوب أعداء الله منحة منه -تعالى- لأهل الحق: فالله -عز وجل- لا يكتفي بتثبيت المؤمنين على الحق فضلاً منه ونعمة، وإنما يمنحهم أيضًا منحة عظيمة بتوهين أعدائهم وإلقاء الرعب في قلوبهم، وهذا الرعب هو من أعظم جنود الله الذي ينصر الله به أولياءه على أعدائهم، وقال -عز وجل-: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (الأنفال:12).

عوامل الثبات على الحق

وهناك عوامل لابد لأهل الحق أن يتمسكوا بها، ويعضوا عليها بالنواجذ حتى يكونوا أهلاً لهذا الإنعام العظيم عليهم من مولاهم -عز وجل- بتثبيتهم على الحق.

لا يثبت إلا الصابرون

     لا يثبت إلا الصابرون ولا فائدة في غيرهم: فهذا طالوت لما جهز جنوده لقتال الأعداء رأى منهم الضعف وصغر الهمم؛ فأراد أن يميز الصابرين منهم عن غيرهم؛ فقال: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ...} (البقرة:249)، تمرون عليه وقت عطشكم ورغبتكم في الماء: «فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي، وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي»؛ فهذا اختبار من طالوت أراد به أن يميز الصابر والصادق عن غيره؛ فالذي يشرب يدل ذلك على قلة صبره، والذي لا يشرب يدل ذلك على صبره وصدقه، وكانوا هم القلة: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ}، صبروا وصدقوا ولم يشربوا: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}؛ فإن كان الذي قال ذلك هم الأكثرية الذين لم يطيعوا طالوت، أو كانوا هم الذين عبروا معه؛ فإنه لما أصابهم بعض الضعف، شجعهم على الثبات أهل الإيمان، أهل الحق؛ حيث قالوا: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}، وهي معية التأييد والنصر والتسديد؛ فثبتوا وصبروا حتى استحقوا من الله النصر على أعدائهم؛ فالنصر مع الصبر، وأنه بالصبر يتحقق الثبات على الحق، ويأتي على أثره النصر، ومن لا يصبر لا يثبت؛ فينبغي إبعاده حتى لا يتسبب في توهين الآخرين وتخذيلهم.

الدعاء بالتثبيت

     الدعاء والتوسل إلى الله وسؤاله التثبيت: وما دام الثبات على الحق من عند الله؛ فينبغي إذاً أن يُطلب إليه وحده؛ ففي قصة طالوت السابق ذكرها حين تم تخليص الطائفة المؤمنة المصابرة لمواجهة جالوت وجنوده، وتحققت المواجهة بين العصابتين -أهل الحق وأهل الباطل- كان لابد للعصابة المؤمنة أن تتوسل إلى الله وتتضرع إليه، وتسأله الصبر والتثبيت والنصر؛ فكل مطلوب لأهل الحق إنما هو بيد الله وحده: {قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}.

أعظم الأسلحة

     والدعاء من أعظم الأسلحة التي تعين أهل الحق في مواجهة أعداء الله؛ فعن النواس بن سمعان رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا مِنْ قَلْبٍ إِلاَّ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ إِنْ شَاءَ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ»، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يَا مُثَبِّتَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ» (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني)، ومن دعائه صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب وهو ينقل التراب: «اللَّهُمَّ لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا إِنَّ الأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا» (متفق عليه).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك