التّوريث القياديّ العلميّ في غرب إفريقيا تجاربٌ وتحدِّيات
أشار القرآنُ الكريم والسُّنة النَّبويّة إلى أهميّة مصطلحُ (التّوريث)؛ فذكر الله -تعالى- في كتابه عن نبي الله زكريّا أنَه سأل ربَّه- تعالى- أن يَهبه ولداً يَرث منه العلم والحكمة؛ فقال: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً}(مريم: ٥ – ٦)، والمراد بِهَذَا الْإِرْثِ إِرْثُ الْعِلْمِ وَالنُّبُوَّةِ.
التوريث القيادي
ومصطلحُ (التّوريث القيادي) مصطلحٌ جديدٌ في الإسلام، ويعني: عَمليّة نَقْلِ قيادةٍ من جِيلٍ لآخر، عن طريق نَقْل السّابق للاَّحق خُلاصَةَ تجاربه القِياديّة؛ ليبدأ اللاَّحق من حيث انتَهى السَّابق، وتكون عن طريق التَّعليم والملازمة، وربما كان السَّبب لها مجرَّد آصرة النَّسب والدَّم والقبيلة، وقد عَرَّف بعضُ الباحثين مصطلحَ (التّوريث) بأنه ما يَتركُه السَّابقُ لِلاّحق من خِبْرة، أو تَجربة، أو لوائحَ، أو طرائقَ في مجالٍ مُعيَّن.
وقد قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في الآية: «وجهُ خوفه أنّه خشي أن يتصرَّفوا مِن بعده في النَّاس تصرُّفاً سيِّئاً؛ فسأل اللهَ ولداً، يكون نبيّاً من بعده، لِيسُوسهم بنُبوَّته وما يوحى إليه؛ فأُجيب في ذلك، لا أنَّه خشي من وراثتهم له ماله؛ فإنَّ النَّبيَّ أعظمُ منزلةً وأجلُّ قدراً من أن يشفق على ماله بهذه الدرجة، أن يَأنف من وِراثة عصَباتِه له، ويسأل أن يكون له ولدٌ؛ فيحوز ميراثَه دونهم، هذا وجه.
الثّاني: أنّه لم يُذكَر أنَّه كان ذا مالٍ، بل كان نجَّاراً يأكل من كَسْب يديه، ومثلُ هذا لا يجمع مالاً، ولاسيّما الأنبياء -عليهم السَّلام-؛ فإنَّهم كانوا أزهدَ الناس في الدّنيا.
الثّالث: أنه قد ثبت في الصّحيحين، من غير وجهٍ: أنَّ رسول الله[ قال: «لا نُورث، ما تَركنا فهو صَدقة».
ومن هذا الباب أيضاً: قوله -تعالى-: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُود}(النمل : ١٦)، أي وَرِثَ منه العلمَ والنُّبوَّة، وليس المرادُ منه وراثةَ المال؛ فقد كان لداود أبناءٌ آخرون غير سليمان؛ فلا يخصُّ الميراثَ به، لو كان المرادُ به التركة الماليّة؛ فدلَّ ذلك على أنَّه أراد وِراثةَ العلم والنّبوَّة.
وأمَّا في السَُنة النَّبويَّة؛ فمنه ما أخرجه أحمد وأبو داود، والتّرمذي، والدّارمي، وابن ماجه وغيرهم, من حديث أبي الدَّرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً ولا دِرْهَماً، ورّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِر».
واقع عُلماء الأمّة
فهذه وِراثةٌ تُعرف من خلال واقع عُلماء هذه الأمّة من الصَّحابة والتّابعين وأتباعهم، وسائر أئمّة الهدى والعلماء إلى يوم الدّين؛ حيث تعلَّم الجيلُ الأوَّل من النّبي صلى الله عليه وسلم وتربَّوا على يَديه، واستقوا من معين الوَحْيَين، ثمّ أَورثوا من بَعدهم جيلاً بعد جِيل، وبتَتَابع سلسلةِ هذه الوِراثة النَّبويّة في الأجيال المتلاحقة حفظ الله هذا الدِّين، وحمى العقيدة، وصار يبعث في الأمَّة رُوحَ الإصلاح ومقاومة كلِّ دَخيل فاسد؛ فانقطاع هذه السِّلسلةُ يَعني انقطاعَ المددَ الرُّوحيّ والإيماني، والعلميّ والفكريّ لهذه الأمّة، وينتج عن ذلك انحطاطُ الأمّة وانهيارُ بنائها، وهذا ما وَقع فعلاً لمّا تخلَّت الأمَّة عن هذا الميراث العظيم، وذهبت تبحث في ركام الفلسفات الفكريّة الدَّخيلة المخالفة لروح هذا الدّين وفكره وقِيمه.
أَوّلاً: تأصيل التوريث القيادي في الشريعة الإسلامية
إنّ من أكبر هموم القائد الموفّق أن يطمئنّ أنَّ مشروعَه لن يموت بعده؛ فيسعى إلى تهيئة مَن يرثه من بعده، ونجدُ ذلك جليّاً في سيرة الأنبياء والرّسل؛ فهذا أبو الأنبياء إبراهيم -عليه السلام-؛ لما بشّره الله بالإمامة للنّاس، فرح وشكر الله، ولكن طلب من ربّه أن تستمر هذه الإمامة في ذرّيته؛ فبيّن الله له من المواصفات المطلوبة في الوريث، ألا يكون ظالماً، قال -تعالى-: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(البقرة : ١٢٤).
طلب مشروع
قال الإمام ابن كثير- رحمه الله-: «لما جعل الله إبراهيم إماماً، سأل اللهَ أن تكون الأئمة من بعده من ذريته؛ فأُجيب إلى ذلك، وأُخبر أنه سيكون من ذريته ظالمون؛ وأنهم لا ينالهم عهد الله، ولا يكونون أئمةً؛ فلا يُقتدى بهم، والدليل على أنه أجيب إلى طلبه قول الله -تعالى-: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ..}(الحديد: ٢٦)؛ فكلّ نبيٍّ أرسله الله، وكلّ كتابٍ أنزله الله بعد إبراهيم؛ ففي ذريته -صلوات الله وسلامه عليه-؛ فالطلب من نبيّ الله وخليله لربّه كان طلباً مشروعاً، واستُجيب له وبُيّنت له شروطه.
نبي الله زكريا
وهذا نبيّ الله زكريا يسأل ربّه أن يرزقه وليّاً يرثه في قيادة أمّته من بعده حتى لا يضيع دين الله من بعده؛ لأنه يخاف أن يضيّع بنو إسرائيل الدّين بعده؛ لما رأى فيهم شقاوةٍ واستدبارا، قال -تعالى- حكايةً عنه -عليه السلام-: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً}(مريم : ٥: ٦)، قال الإمام البغوي في تفسير هذه الآيات: «والمعنى: أنّه خاف تَضييعَ بني عمِّه دينَ الله وتغييرَ أحكامِه، على ما كان شاهَده من بني إسرائيل من تبديل الدِّين وقتل الأنبياء؛ فسأل ربَّه وليّاً صالحا يأمنه، ويرث نبوَّته وعلمه، لئلا يضيع الدين».
بين داود وسليمان
ووقع الإرثُ بين داود وسليمان -عليهما السلام-، قال -تعالى-: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُود}(النمل: ١٦)، قال الطبري: «وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ أباه دَاوُودَ العلم الذي كان آتاه الله في حياته، والملك الذي كان خصّه به على سائر قومه؛ فجعله له بعد أبيه داود دون سائر وَلَد أبيه».
أمر مرغوب فيه
يدلّ ذلك كلُّه على أنّ التوريث القيادي أمرٌ مرغوب فيه؛ لفوائده الجمّة، التي من أجلِّها استمرارُ المشروع بعد صاحبه أو أصحابه الذين سهروا عليه، وإذا كان هؤلاء الأنبياء قد دعوا الله أن يُخلفهم بذريةٍ طيبةٍ تحمل الأمانة بعدهم؛ فنجد نبيّنا محمّداً صلى الله عليه وسلم كان يُعِدّ أمَّةً من القادة يحملون الرِّسالة بعده؛ فالعلماء هُم ورثته؛ لذلك كان جيل الصَّحابة جيلاً مُعَدّاً للقيادة، كبيرهم وصغيرهم؛ فقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : «عليكم بسنَّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين المهديّين من بعدي؛ عضّوا عليها بالنَّواجذ»؛ ففي الحديث إشارة إلى أنّ بعده خلفاء يخلفونه في الأمر، ويحملونه من بعده، ويسيرون فيه سِيرةً حسنةً لا تختلف عن سيرته وسنّته صلى الله عليه وسلم ؛ فالاقتداء بهم اقتداءٌ به.
ثانياً: كيف يكون التوريث؟
إذا رجعنا إلى مواقف الأنبياء، الّذين طلبوا من ربّهم أن يهيِّئ لهم من يَرثهم في قيادة أممهم، نجد أنهم دعوا أيضاً أن يُوجِدَ الله فيهم شروطَ هذه القيادة، أو أنّ اللهَ بيّن لهم هذه الشّروط، وأنّ مَن لا تتوافر فيه لا ينال هذا الميراث، بل نجد في السِّياق القرآني أنّ هؤلاء الورثة كانوا يُدرَّبون على الأمر قبل ذهاب مُورِّثيهم.
فهذا نبيّ الله إبراهيم -عليه السّلام-؛ لما طلب أن تكون النّبوّة والإمامة في ذرّيته، بيّن الله له أنّ الأمر كذلك بشرط عدم الظّلم؛ فالإمامة لا ينالها الظالمون.
ونبيّ الله زكريا -عليه السّلام- لمّا سأل اللهَ أن يهب له وليّاً يرثه طلب من الله قائلاً: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً}(مريم: ٦)، قال الطبري: «يقول: واجعل يا ربِّ الوليّ الذي تهبه لي مرضيّاً ترضاه أنت، ويرضاه عبادُك ديناً وخُلقاً».
وهذا سليمان قبل أن يرث داود -عليهما السلام-؛ فهَّمه الله طريقةَ الحكم، وأُوتي العلمَ والحكمةَ، وهى من الرّكائز الأساسيّة التي يحتاج إليها الحاكم والموجِّه: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ}(الأنبياء : ٧٨ – ٧٩).
أمّا النّبي محمّد صلى الله عليه وسلم ؛ فسيرتُه مليئةٌ بتعليمه وتدريبه لصحابته؛ ليكونوا قادةً للأمّة من بعده؛ لذلك لمّا التحق بالرفيق الأعلى كان أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وأبو عبيدة -رضي الله عنهم- كلُّهم مهيَّئين للخلافة، كما كان أسامة وطبقته -رضي الله عنهم- مهيَّئين لقيادة الجيوش، وهكذا.
لاتوجد تعليقات