رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: محمد الثاني عمر موسى 2 مايو، 2018 0 تعليق

التّوريث القياديّ العلميّ في غرب إفريقيا تجاربُ وتحدِّيات (2)

 

أشار القرآنُ الكريم والسُّنة النَّبويّة إلى أهميّة مصطلحُ  (التّوريث)؛ فذكر الله- تعالى- في كتابه عن نبي الله زكريّا أنَه سأل ربَّه- تعالى- أن يَهبه ولداً يَرث منه العلم والحكمة، فقال: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً}(مريم: ٥ ٦)، والمراد بِهَذَا الْإِرْثِ إِرْثُ الْعِلْمِ وَالنُّبُوَّةِ، وفي هذه الحلقة نتكلم عن التّحديّات القياديّة العلمية في غرب إفريقيا:

إنّ قيادة العمل الإسلاميّ والمسيرة الدعويّة الإصلاحيّة في غرب إفريقيا تواجه تحديّات عديدة، تنذر– إن لم تُتدارك- بفراغٍ علميٍّ وفكريٍّ ودعويٍّ كبير في مستقبل الدعوة والعلم في تلك البقاع من العالم، وأبرزُ هذه التحديات ما يأتي:

قلّة الوعي

     قلّة الوعي بأهميّة التّوريث القيادي يُعاني كثيرٌ من العلماء والدّعاة مِن قلَّة الوعي بأهميّة الإعداد العلميّ والمعرفيّ والقياديّ لنوابغ تلاميذهم الذين إليهم سَتؤُول قِيادة المسيرة الدّعوية بَعد رحيل قادتها؛ فأصبحوا لا يُعيرون هذا الجانب كبيرَ اهتماماتهم، ولا يُولونه عنايتَهم التَّامّة؛ فينشغلون بأمور العامّة، وتَطغى على جهودهم ونشاطاتهم، ولا يُعنون عنايةً كبيرةً بحلقات العلم الَّتي تُخرِّج طلبةَ العلم النَّابهين، في فنون المعرفة وأصول العلم وفروعه، فصار الإخلال بهذا الجانب الكبير يُنذر بتَرك ثغراتٍ في بناء الدّعوة، تظلّ ردحاً طويلاً من الزَّمن دون أن تجد مَن يسدّها ويملأ فراغَها.

ضعفُ الإمكانيّات

صَرف كثيرٌ من العلماء وقادةُ العمل الإسلاميّ في غرب إفريقيا جلّ أوقاتهم إلى البحث عن لقمة العيش لهم ولعوائلهم؛ فلا يجدون فراغاً كافياً من الوقت للعناية بدروس الطُّلاب الخاصّة، وإعدادهم إعداداً علميّاً وفكريّاً وقياديّاً.

     وقد أضحت الحياةُ في العصر الحاضر تختلف عن حياة العصور السّالفة؛ فما كان من أمور المعيشة من جنس الحاجيَّات؛ أصبح اليومَ بسبب التّطور المذهل للحياة البّشريّة من جنس الضَّروريّات وهكذا،  ومع ذلك كلّه؛ فقد كان كثيرٌ من العلماء في عهد السّلف يجدون مَن يكفلون لهم ولعائلاتهم الحياة الكريمة؛ ليتفرغوا للتّعليم والتّأليف، وتربية الأمّة، قال موسى بن حبان: عُوتِبَ ابْنُ المُبَارَكِ فيما يُفَرِّقُ مِنَ المَالِ فِي البلدان دون بلده، فقال: «إِنِّيْ أَعْرِفُ مَكَانَ قَوْمٍ لَهُم فَضْلٌ وَصِدْقٌ، طَلَبُوا الحَدِيْثَ، فَأَحْسَنُوا طَلَبَهُ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِم، احْتَاجُوا، فَإِنْ تَرَكْنَاهُم ضَاعَ عِلْمُهُم، وَإِنْ أَعَنَّاهُم بَثُّوا العِلْمَ لأُمَّةِ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، لاَ أَعْلَمُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ أَفْضَلَ مِنْ بَثِّ العِلْمِ».

وكان-رحمه الله- يتّجر في البَزّ، ويقول: «لولا خمسةٌ ما اتَّجرتُ، فقيل له: يا أبا محمّد مَن الخمسة؟ فقال: سفيان الثّوري، وسفيان بن عُيينة، والفُضيل بن عياض، ومحمّد بن السَمَّاك، وابنُ عليّة»، وكان يخرج فيتّجر إلى خراسان؛ فكلّما ربح شيئاً أخذ قوت عياله ونفقة الحجّ، والباقي يصلُ به إخوانَه الخمسة.

     وكانَ اللَّيْثُ بنُ سَعْدٍ يَصِلُ مَالِكاً بِمائَةِ دِيْنَارٍ فِي السَّنَةِ، وكَتَبَ مَالِكٌ إِلَى اللَّيْثِ: «إِنِّيْ أُرِيْدُ أَنْ أُدخِلَ بِنْتِي عَلَى زَوْجِهَا، فَأُحِبُّ أَنْ تَبْعَثَ لِي بِشَيْءٍ مِنْ عُصْفُر»؛ فَبَعَثَ إليه بثَلاَثِيْنَ حِمْلاً عُصْفُراً؛ فَبَاعَ مِنْهُ بِخَمْسمائَةِ دِيْنَارٍ، وَبَقِيَ عِنْدَهُ فَضْلَة، وأَعْطَى اللَّيْثُ ابْنَ لَهِيْعَةَ أَلْفَ دِيْنَارٍ، وَأَعْطَى مَالِكاً أَلْفَ دِيْنَارٍ، وَأَعْطَى مَنْصُوْرَ بنَ عَمَّارٍ الوَاعِظَ أَلْفَ دِيْنَارٍ، وَجَارِيَةً تَسْوَى ثَلاَثمائَةِ دِيْنَارٍ.

ضعف الهمة

ضعف الهمّة وسيطرة الخمول والكسل على كثيرٍ من طلبة العلم؛ فقد يكون العالم مجدّاً في عمله، مهتمَّاً بتربية مَن معه من الطّلاب، إلا أنّ الله لم يُقَيِّض له تلاميذ يقومون بعلمه، ويهتمّون بتعلّمه ونشره اهتمامَ شيخهم، كما قال الشافعي- رحمه الله- قديماً في شأن اللّيث بن سعد: «اللَّيْثُ أَفْقَهُ مِنْ مَالِكٍ إِلاَّ أَنَّ أَصْحَابَه لَمْ يَقُوْمُوا بِه».

     وقد يعود سبب هذا الفُتور في بعض الطَّلبة، مع حبّهم للعلم وشغفهم به، إلى انشغالهم بطلب ما يسدّون به حاجتَهم اليوميّة، وحاجةَ عوائلهم الضّروريّة، وليس لِشيخهم ما يمدّهم به من مَعونةٍ مادّيّةٍ تخفّف عنهم من قَسوة الحياة، فتمنعُ أحدَهم حاجتُه الإنسانيّة من ملازمة شيخه والأخذ عنه، وقد كان قديماً يتكفّل بعض العلماء بنفقات تلاميذهم ليفرِّغوهم للعلم والتّربية؛ فقد قال زياد بن سعد يوماً لشيخه الزهري: «إنّ حديثك لَيُعجبني، ولكن ليست معي نفقة فأتّبعك؛ فقال له الزهري: اتّبعني أحدِّثْكَ وأَنْفِقْ عليك»

وكان عبد الوهّاب بن عبد المجيد الثّقفي تبلغ غَلَّتُه في كلّ سنة ما بين أربعين ألفاً إلى خمسين ألفاً؛ فكان إذا أتى عليه السّنة لم يُبق منه شيئاً، كان يُنفقها على أصحاب الحديث.

قلّة الاستفادة من الدّعاة والعلماء

     ومن التّحديّات القياديّة القائمة: قلّة الاستفادة من الدُّعاة والصّالحين والعلماء؛ إذْ إنّ جمهرةً كبيرةً من الدّعاة والصّالحين والعلماء يُغادرون هذه الحياة دون أن تَستفيد منهم الأجيال بوراثةٍ مفيدةٍ قائمةٍ على أصولٍ علميَّةٍ واضحة؛ ولذلك يَفقد العالمُ الإسلاميّ بهذا كنزاً ثميناً لا يعوّض غالباً إلاّ أن يشاء الله -تعالى-؛ فلو كانت هناك مؤسَّسات مهمّتها استقاءُ ما عند أولئك الدّعاة والعلماء والصّالحين، وتتبُّع أوضاعهم، وتَسقُّط أخبارهم، وتسجيل المهمّ من خبرتهم وأحوالهم؛ لكان ذلك أمراً حسناً يدلّ على عناية الأمّة بالخيرة من أبنائها والعظماء منهم.

آصرة النسب

     ومن التحديات القيادية أيضاً: التّوريث القياديّ باعتبار آصرة النّسب؛ فقد يتَسنُّم أحدهم مركزِ القيادة الدينيّة أو العلميّة عن طريق التّوريث الأُسري؛ فكلَّما مات عالمٌ، أو رَحَل داعيةٌ، أقيم واحدٌ من أبنائه أو أحد أقاربه مقامَه، ولو كان غيرَ كفؤٍ وغير مُؤهّل علميّاً أو إداريّاً لتلك القيادة؛ فيؤدّي هذا التّوريث إلى تقديم الجهّال على العلماء، وقد عدّ الشاطبيّ هذا الصّنيع من موارد البدع العاديّة، لاسيما عندما يؤدّي الحال إلى تولية الجاهل على النّاس.

     لكن من الجدير بالذّكر أنّ هذه الظّاهرة لم تكن إلى الآن منتشرة إلا بين أصحاب الطّرق الصوفيّة؛ فكثيراً ما يقوم الابنُ مقام أبيه في الزّعامة الدينيّة بعد رحيل أبيه، مع أنه قد يوجد من بين تلاميذ أبيه من هو أجدرُ بتلك الزَّعامة منه؛ من حيث العلمُ والسّنّ، والملازمة والتّجربة، لكن لا يُولَّى تلك الزّعامة، ولا تُسند إليه تلك القيادة، وإنما تُسند إلى الابن الذي قد يكون غِرّاً لا يعلم من العلم شيئاً ذَا بال، وهذه الآفة لم تَستفحل بين المنتسبين إلى السنّة الدّاعين إلى منهج السلف الذي يقوم على تقديم المتقدّم وتأخير المتأخّر، وأنّ الزَّعامة العلميّة والدينية لا ينبغي أن تَنبني على آصرة النّسب والدّم؛ فهذا من نعمة الله- تعالى- على هذه الدّعوة السّلفيّة، ومن بركة الالتزام بمنهج السّلف واتّباعه.

التعالم

من التحديات القياديّة القائمة: انتشارُ التّعالم، واستفحالُ أمر المتعالمين في السّاحة العلميّة والدّعويّة، الذين ملَؤوها بالصّياح والعويل، وأوجدت لهم وسائلُ الإعلام التّجاريّة وغير التجارية منابرَ يرفعون منها عقيرتَهم بالجهل المطبَق، وتُبرزهم على أنّهم قادةُ العلم الشّرعي، ونوابغُ الدين الإسلامي.

     وتَعمل بعض المؤسّسات الدّعوية التي تفتقد ضوابطَ علميّةً صحيحةً، ومقاييسَ شرعيَّةً متّزنة، في السِّياق نفسه؛ فيطغى صوتُ هؤلاء المتعالمين على أصوات العلماء العامِلين المتمكِّنين من ناصية العلوم والمعارف؛ فيتخذ النّاسُ المشاهيرَ الجهّالَ قدوةً وقادةً، وينصّبونهم مُفتين يفتونهم بغير علم؛ فيَضلّون ويُضلّون؛ كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم.

وقْفةٍ جادَّة

     وختامًا فإن هذه الأمور تمثّل أبرز التّحديات التي تواجه التّوريث القياديّ في غرب إفريقيا، وتحتاج إلى وقْفةٍ جادَّة من المؤسّسات الدَّعوية الكبيرة، ومن أصحاب النّفوذ والقرار، ومن أغنياء المسلمين لمواجهتها والعمل على إزالتها أو تقليلها؛ فقد علّق شيخنا الأستاذ الدّكتور محمّد بن مطر الزَّهراني- رحمه الله- على موقف الإمام ابن المبارك المذكور سابقاً بقوله: «إنّ أعداداً كثيرة من خريجي الجامعات العربية والإسلامية من أبناء المسلمين في إفريقيا وآسيا بحاجةٍ ملحّة إلى مَن ينفق عليهم؛ ليتفرغوا للدعوة إلى الله ونشر العقيدة الصّحيحة بين المسلمين وغيرهم، في تلك الديار المقفرة من الدعاة إلا من النزر اليسير، إنهم بحاجةٍ إلى عشراتٍ من أمثال عبد الله بن المبارك ليتفقدوا أحوالهم، ويعينوهم على بثّ العلم لأمّة محمّد[ لشدّة حاجة الأمّة إلى علمهم، لاسيما وهي تصارع الشّرك، والخرافة، والتَّنصير، والمبادئ الهدامة، من علمانيَّة وقاديَانيَّةٍ، وبهائية،ٍ ورافضةٍ وباطنيّة، وغيرها».

فلمواجهة هذا التّحدِّي لا بدَّ للمؤسّسات الكبيرة أن تَعي أهميَّة هذا الدَّوْر، وأن تهتمّ بالعلماء العاملين والدّعاة البازرين ضِمنَ برامجها العمليّة، وتخفّف عنهم بعض الأعباء المعيشيّة، وتوفِّر لهم جوّاً ملائماً، كي يتفرّغوا لتربية القيادات النّاهضة، وإلاّ سيبقى رَحيلُ كلّ عالمٍ وكلّ داعيةٍ يَترك مَكاناً شاغراً لا يجد من يملؤُه ممن يأتي بعده.

     كما يجب على العلماء أنفسِهم أن يَعُوا دَوْرهم في تربية الأمّة، وإعداد النّاشئة، ويخوضوا معركة البناء والتّوجيه لتلك الناشئة الّتي ستتولَّى القيادة العلميّة والدّعوية من بعدهم، وبهذا يمكن أن تَتكامل عمليّةُ البناء، ويتحقَّقَ للأمّة طموحُها، ويكون للإسلام مستقبَلٌ باهرٌ على هذه الأرض، يُبشِّر بعودةِ الخلافة فيها على منهاج النّبوّة مرّةً أخرى، {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(الأنفال : ١٠).

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك