رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان.القاهرة/مصطفى الشرقاوي 26 نوفمبر، 2013 0 تعليق

التيارات السياسية العربية ومأزق الحوار الوطني


افتقاد أدبيات الحوار بين السياسيين فرغ ثورات الربيع العربي من مضمونها

إخفاق الحوار الوطني أسقط نظام مرسي في مصر، ووضع مصير أنظمة تونس وليبيا واليمن على المحك

افتقاد أحزابنا للخبرة السياسية وتركيزها على المصالح الفئوية يهدد بمستقبل مؤلم للتعدية السياسية

الفرقاء التونسيون فشلوا في تسوية الخلافات، ووضعوا البلاد على شفير الانهيار

الحوار اليمني عجز عن تسوية معضلة الجنوبيين وحل الأزمة مع الحوثيين والحبل على الجرار

غياب الحوار عمق مأساة ليبيا، ويهدد بتحويلها لأشلاء، ومصلحة البلاد لا تشكل أولوية للمتصارعين

التجربة المريرة بين العلمانيين واستراتيجية (فرق تسد) ودور القوي الدولية أسباب مهمة لعرقلة الحوارات الوطنية

 

 

مشاهد سياسية أربع حاصرت بلدان الربيع العربي خلال الأشهر الماضية، تعكس مدى المأزق السياسي الذي تعاني منه هذه البلدان؛ لافتقاد فرقائها السياسيين لقيمة الحوار كأداة لتفكيك المشكلات السياسية التي تعاني منها هذه البلاد في المرحلة الحرجة التي تعاني منها التي كانت تتطلب من هؤلاء الفرقاء الرهان فقط على طاولة الحوار والتوافق للخروج من هذا المأزق بوسيلة تنهي حالة الاحتقان والسجال السياسي والأمني الذي شهدته هذه البلدان، منذ أسقطت انتفاضات شعبية أنظمة قمعية واستبدادية ظلت جاثمة على صدور مواطنيها لعقود طويلة كما حدث في تونس ومصر واليمن وليبيا.

ولعل أول المشاهد المعقدة التي نحن بصددها حاليا تتمثل في سعي الفرقاء التونسيين للوصول إلى تسوية عبر حوار وطني، دعا إليه الاتحاد التونسي العام للشغل وعدد من مؤسسات المجتمع المدني للخروج من الأزمة طبقًا لخارطة الطريق التي طرحها الاتحاد التي تتمثل في استقالة حكومة علي العريض، وتشكيل حكومة تكنوقراط تعد البلاد لانتخابات عامة، وتسمية رئيس وزراء توافقي، وهي الملفات التي فشلت جولات الحوار المتتالية في الوصول لتسوية لها، بل قدمت تأكيداً على صعوبة وصول الفرقاء لتسوية للأزمة عبر جلسات الحوار، بل إن هذه الجلسات قد شهدت انتقادات واتهامات متبادلة بين الفرقاء بالمسؤولية عن فشل الحوار، بل وتوجيه اتهامات صريحة للترويكا الحاكمة بقيادة النهضة بالمماطلة والمسؤولية عن فشل الحوار.

عودة الفلول

     وتصاعدت حدة الاتهامات؛ حيث كال أنصار التيار العلماني الاتهامات للنهضة بالرغبة في الاستمرار في السلطة ولو حتى على أشلاء التوانسة، وهو ما ردت عليه النهضة بأن تمسكها بمواقفه يعكس رغبة في الحفاظ على الثورة التونسية، وعدم تقديم البلاد على طبق من ذهب لأنصار زين العابدين بن علي متمسكة بضرورة تشكيل حكومة تكنوقراط محايدة، وضمان وجود نظام انتخابي لنزاهة الانتخابات في رد على الانتقادات الموجهة بالمماطلة في تنفيذ تعهداتها وهو إخفاق يهدد الوضع في البلاد، بل ويضعها على برميل بارود يوشك أن ينفجر في وجه الجميع.

     وليس بعيداً عن تونس ما يعكسه المشهد الثاني من فشل الحوار الوطني بين الفصائل السياسية في الدول العربية ما يحدث في اليمن؛ حيث أخفق الفرقاء السياسيون في التوصل لتسوية لمشكلات البلاد المزمنة، وفي مقدمتها مصير الجنوب الذي يشهد -منذ سنوات- مواجهات دامية بين السلطة ودعاة الانفصال، دون أن تلوح بارقة أمل لإيجاد تسوية تحفظ وحدة البلاد.

     ولكن الآمال انتعشت بانخراط هؤلاء الفرقاء في حوار وطني يكتب نهاية لهذه الأزمة المشتعلة، منذ نجاح الجيش اليمني في الوصول لقلب عدن وإفشال المحاولة الانفصالية التي قادها الزعيم الجنوبي علي سالم البيض.

انفصال وحوثيون:

     غير أن الحوار الوطني لم يكن بعيدًا عن مصير نظيره التونسي؛ حيث مازالت الاقتراحات بتسوية مشكلة الجنوب تراوح مكانها سواء عبر مقترح الفيدرالية أم تقسيم البلاد لخمس أقاليم، وهي مقترحات لا تحظى بارتياح في صفوف أنصار الرئيس علي عبدالله صالح الذين يعدونه مقدمة لتقسيم البلاد، وهو رفض يشاركهم فيه الجنوبيون الذين يتمسك قطاع منهم بالانفصال وفك الارتباط مع الشمال، وهو إخفاق تكرر مع قضايا صعبة مثل التسوية مع الحوثيين في صعدة، وهو الملف الذي لم يحقق اختراقًا مهمًا حتى الآن فضلاً عن صعوبة تحديد بوصلة العملية السياسية وشكل الدولة اليمنية.

     وتكررت مشاهد التلاسن والانتقادات المتبادلة في الحوار التونسي مع نظيره اليمني، بل قد تعدى ذلك للتلاسن بين الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي والزعيم الجنوبي محمد علي أحمد؛ حيث أكد هادي أن من يتآمرون على وحدة البلاد سيذكرهم التاريخ في صفحاته السوداء، وهو ما رد عليه أحمد بالإشارة إلى أن مزبلة التاريخ تنتظر من اقتحموا عدن على ظهور دبابات صالح، وهو تلاسن يكشف كيف أدت الخلافات السياسية والصراعات وغياب الثقة الدور الأهم في الوصول لهذا المعترك الصعب، فضلاً عن الطموحات السياسية للقوى الحزبية التي تؤدي الدور الأهم في إفشال أي حوار وطني في إطار الرغبة في تأمين أكبر كم من المصالح.

فوضي ونفط

     أما المشهد الثالث فتقع فصوله حاليًا في ليبيا؛ حيث وصلت الأوضاع في البلاد لمنعطف خطير على الصعيد السياسي والأمني والاقتصادي؛ حيث إن مثل حادثة مقتل 50 شخصًا على يد مليشيات درع ليبيا في منطقة غرغور أحد ضواحي العاصمة طرابلس دليل لا يقبل الشك على عمق الأزمة الليبية، ووقوف هذه الأزمات وراء إخفاق العملية السياسية وتداعياتها وفي مقدمتها المؤتمر الوطني الليبي، وحكومة علي زيدان التي فشلت في تحقيق اختراق حقيقي في معظم الملفات الموكلة إليها، بل تعمقت الأزمة عبر سيطرة المليشيات المسلحة على الشارع، ومحاولة فرض سطوتها علي المشهد السياسي فضلاً عن قيام أخرى بحصار المنشآت النفطية في رأس لانوف والبريقة وغيرها؛ مما أثر بالسلب على إنتاج ليبيا من النفط.

     ورغم أن البلاد تعيش مأساة كبيرة وتتصاعد المخاوف من احتمالات تقسيمها، إلا أن الحوار يبدو مفتقدًا بين الفرقاء الليبيين، ولاسيما التيار الليبرالي الذي يقوده محمود جبريل -القيادي في المجلس الوطني الانتقالي السابق- وبين القوي الإسلامية صاحبة الأغلبية في المؤتمر الوطني العام؛ حيث أخفق الطرفان في الوصول لتسويات لمشكلات البلاد وفي مقدمتها العزل السياسي والمأزق الأمني، وسعي كل طرف لإلحاق الهزيمة الساحقة للآخر وهو نهج لا يتناسب مع المراحل الانتقالية التي لا يمكن تسير بالمغالبة، بل تتطلب توافقًا وطنيًا وهو ما تفتقده ليبيا تماما، بل إن الأمر وصل لنوع من القطيعة بين الفرقاء السياسيين؛ مما عقد من مشكلات البلاد وحال دون الوصول لحلول للأزمة الأمنية واستعادة هيبة الدولة، ودمج المقاتلين السابقين المحسوبين على ثورة السابع عشر من فبراير في الجيش والشرطة، وهي القضايا الواجب على الفرقاء الليبيين الوصول لتسوية لها قبل أن تتحول البلاد لأشلاء، ولكن يبدو أن الصراعات والمصالح الشخصية والفئوية تحول دون ذلك وتبعد أي محاولات لـ(لم الشمل) ووضع البلاد على الطريق الصحيح.

 ضياع ثورة:

     ولم يستطع الفرقاء السياسيون في المشاهد الثلاث الاستفادة من تداعيات المشهد الرابع الذي جرى في مصر، وكيف أسهم فشل الأحزاب والقوى السياسية المحسوبة على ثورة الخامس والعشرين من يناير في الوصول لتوافق في إضاعة الثورة، وإتاحة المجال لرموز عهد مبارك في العودة، رغم جولات الحوار المتتالية التي جمعتهم، سواء بدعوة من القوى السياسية أم مؤسسة الرئاسة أو الأزهر الشريف في تدشين شراكة وطنية تقود البلاد في المرحلة الانتقالية، ولكن ما حدث فاق الخيال؛ حيث سقط نظام حكم الدكتور محمد مرسي، وتضاءلت حظوظ التيار الإسلامي في الساحة السياسية، وفرض التيار العلماني -ليبرالي أو يساري- سطوته على المشهد، وشرع في تجريف مواد الهوية الإسلامية من الدستور، وهو أمر تتحمل مسؤوليته جماعة الإخوان المسلمين والقوى الثورية في حماية الثورة؛ مما أتاح للمؤسسة العسكرية للعودة للحكم بعد عام من تسليمها السلطة لرئيس مدني منتخب.

     ومن هذا المنطلق يجدر بنا التأكيد على أن هناك أسبابًا عديدة لفشل ما يطلق عليه الحوارات الوطنية في العالم العربي في الوصول لتسوية للأزمات التي تعاني منها، وهي الأسباب التي يحصرها الدكتور حسن نافعة -أستاذ العلوم السياسية لجامعة القاهرة- في التباين الأيديولوجي والعقدي بين التيارات السياسية في المنطقة من إسلامي وليبرالي ويساري؛ فالخلافات بين هذه القوى كرست حالة من عدم الثقة بين الفصائل السياسية المختلفة، فضلاً عن أن مرارة التجربة بين هذه القوى جعلت الوصول لتوافق بينها أمراً شديد الصعوبة، ولاسيما أن القوي العلمانية وبحسب الإسلاميين قد مارست أقصى درجات الإقصاء والتهميش ضدهم.

     وتابع نافعة: ترد القوي العلمانية على هذه الاتهامات بالتأكيد على أن التيار الإسلامي لا يؤمن بالديمقراطية، بل يستخدم الانتخابات كأداة للوصول للحكم، وما يلبث يكفر بالمسار الديمقراطي، ويتبنى سياسات قمعية استبدادية، مشيرا إلى أن الصراعات السياسية والحزبية تؤدي دورًا في إزكاء الخلافات بين هذه القوى، وهو أمر يعود إلى أن الأنظمة التي سادت عالمنا العربي بعد خروج الاستعمار قد طبقت سياسة (فرق تسد) بين القوى الوطنية وبين القبائل؛ مما أفسد العلاقة بين هذه القوى ومنع تطبيع العلاقات فيما بينها.

     وأضاف نافعة: ولا يتجاهل وجود تأثير سلبي للتدخل الأجنبي في منع الفرقاء السياسيين في الدول العربية من الوصول لتوافق خلال جلسات الحوار الوطني؛ حيث تعتمد هذه الدول وأجهزة استخباراتها في تعميق الخلافات بين القوى الوطنية لصالح أجندتها المشبوهة عبر الدعم الذي تسبغه على هذه القوى، والتحكم في أجندتها السياسية بقوة في الحالة المصرية، وأقل قوة في نظيرتها التونسية، ومرشح ليكون أكثر قوة في المشهد الليبي.

 

غياب الواقعية

     ولا شك أن تعقد المشهد السياسي في العالم العربي، وإخفاق الحوار الوطني في الوصول لتوافق حول القضايا المهمة يفرض ضرورة البحث عن حل تسوية لهذه الأزمة، وجعل غياب الحوار بين القوى السياسية في هذه الأجواء يهدد أمن البلدان العربية واستقلالها واستقرارها، بل ويحكم بالإعدام على تجربتها الديمقراطية الوليدة، وهو ما يرى السفير عبدا لله الأشعل -مساعد وزير الخارجية المصري السابق- أن افتقاد الفرقاء السياسيين في العالم العربي قد شكل خطورة كبيرة على التجربة الديمقراطية في المنطقة، بل وأوصل دول الربيع العربي إلى ما وصلنا إليه حاليًا من ضياع ثورات مثل المصرية، واحتمال تكرار هذا السيناريو في بلدان أخرى.

     ونبه الأشعل إلى أن الفصائل السياسية في بلدان العالم العربي لا تتمتع بخبرة سياسية تدفعه للاعتقاد بأنه لا إمكانية لإدارة أي بلد في مرحلة انتقالية بنهج المغالبة، بل ينبغي أن تكون هناك شراكة وطنية تدير هذه المرحلة فيما تأتي المنافسة والاحتكام للصندوق في مرحلة تالية، مشددًا على أنه وبدون ترسيخ تقاليد ديمقراطية وبناء كوادر تدرك طبيعة الساحة السياسية فلن تستطيع القوي السياسية تنحية خلافاتها جانبًا ووضع المصالح العليا للبلاد في مقدمة أولوياتها.

     وأضاف الأشعل إلى أن الصراعات السياسية في العالم العربي تبدو في أسوأ حالاتها؛ فكل فريق يسعى للهيمنة التامة على المشهد حتى لو كانت قاعدته الشعبية لا تؤهله؛ لذلك كان هذا نوعا من الولوغ في الأوهام والابتعاد عن الواقعية، مشددًا على أن نجاح الحوار في بلدان العالم العربي يحتاج إلى تجربة قوية، وتداول سلمي منتظم للسلطة، ووجود بروتوكولات تحكم الصراع السياسي، وخطوط حمراء تجمع السلطة والمعارضة، وبدون ذلك فلن يستطيع أي حوار وطني تجاوز هذا المأزق، وستظل المأساة العربية وافتقاد الحوار ماثلاً أمامنا لعقود.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك