رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: اللجنة العلمية في الفرقان 6 فبراير، 2023 0 تعليق

التوسط والاعتدال من أعظم الخصائص التي تميز بها الدين الإسلامي – الإسراف

 

تتميز الشريعة الإسلامية بالتوسط والاعتدال، واليسر والرحمة، وتنأى عن العسر والحرج، فالتوسط والاعتدال من أعظم خصائص هذا الدين، عقيدة وشريعة، عبادات ومعاملات، أقوالا وأفعالا، ومن الأمور التي حثَّ الإسلام على التوسط فيها والاعتدال قضية الإنفاق، ولقد وصف الله عباد الرحمن المقربين إليه فقال -سبحانه-: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (الفرقان:67)، وما أمر به في وصايا الحكمة من سورة الإسراء: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (الإسراء:29).

     وإنَّ التوسط في الإنفاق أو ما يسمى بترشيد الاستهلاك، محلُّ اعتبارٍ عَقَدي ابتداءً، تَفرضه على الإنسان مقتضيات الإيمان بقواعد الشريعة الإسلامية التي نَهتْه عن الإسراف والتبذير في استخدام الموارد التي هو مستخلَف فيها وأمين عليها؛ حفاظًا عليها من الضياع والنَّفاد، وبما يضمن ديمومتها في الحياة، لضمان حقِّ الأجيال القادمة، فضلا عن مقتضيات إشباع حاجاته الدنيوية المحضة، وهو ما امتازت به الشريعة الإسلامية عن غيرها من النظم التي تَحكمها مقاييسُ تعظيمِ المنفعة والربح بحسابات ماديَّة مجرَّدة خالية من أي وازع قِيَمي غير دافع الكسب.

متى يتأكد هذا المفهوم؟

     ويتحتم هذا المفهوم ويتأكد إذا قلت الموارد كما في أيام القحط والمجاعات، وهو ما أشار إليه القرآن في قصة يوسف، من تقليل الاستهلاك في السنوات السبع الخصبة حتى يكون هناك مجال للادخار: {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ} (يوسف:47)، ثم تقليل الاستهلاك مرة أخرى في السنوات السبع العجاف، بحكم الضرورة وتوزيع المدخر على سنوات الأزمة جميعاً: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} (يوسف:48)، وفى التعبير بقوله: {مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} ما يدل على الاستهلاك.

الاستهلاك في الفقه الإسلامي

     من تعريفات الاستهلاك في الفقه أنه إنفاق المال في منفعة الإنسان، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف؛ فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده»، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأك خصلتان: سرف ومخيلة»، هذه هي القاعدة الأساسية العامة المثلى في المحافظة على نعمة الله وترشيد الاستهلاك، وقد أكد المولى -جل وعلا- هذه القاعدة (قاعدة التوازن والاعتدال) في جمع المال وتحصيله وإنفاقه، ومدح -جل جلاله- المعتدلين في إنفاقهم والمحافظين على نعمه الذين يرشدون استهلاكهم؛ فقال -جل شأنه-: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (الفرقان:67)،

أكثر الناس حفظًا لنعم الله -تعالى

     وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أكثر الناس تقديرًا وحفظا لنعم الله -تعالى- وأبعدهم عن الإسراف والتفاخر بها وإهدارها، رغم انفتاح الدنيا له وإقبالها عليه، إلا أنه لم يصرف هذه النعم إلا في طاعة الله دون إسراف ولا تبذير أو تقتير، كما حذرنا - صلى الله عليه وسلم- من الإساءة في استعمال الماء والإسراف فيه، حتى في الوضوء، فكيف بغيره؟! وقد أكد رسول الهدى والرحمة هذا فقال -مخاطباٍ رجلاٍ يتوضأ-: «لا تسرف لا تسرف». ونهى - صلى الله عليه وسلم- عن الإسراف والتبذير في شراء الملابس فقال: «كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا ما لم يخالطه إسراف أو مخيلة».

مفهوم الاستهلاك في المذهب الاقتصادي

إن الناظر إلى مفهوم الاستهلاك في المذهب الاقتصادي التقليدي يراه غير منضبط بضوابط أخلاقية ولا اجتماعية عامة، وإنما يفترضون مبدأ الرُّشْد والعقلانية، ويبيح هذا النظام لنفسه ألا يتدخل في الاستهلاك بعد ذلك، فيستهلك الإنسان ما يريد من السلع والخدمات النافعة أو الضارة، فيبيح الخمر والخنزير والزنا وغيرها من الأمور؛ لأنها تمثل منفعةً لهذا المستهلك، واعتمادا على عقلانيته.

ضوابط الاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي

     ولكننا في المقابل لو نظرنا إلى المذهب الاقتصادي الإسلامي، لوجدناه يقر للإنسان بحرية الاختيار لما يريد استهلاكه من السلع والخدمات المختلفة، إلا أنه يضبط هذا الاستهلاك بضوابط عديدة، من شأنها أن تحقق أعظم النفع والأهداف المنشودة من هذا الاستهلاك، وأهم هذه الضوابط والملاحظات هي:

(1) حصر الاستهلاك في الطيبات

     إن الإسلام حصر الطلبَ الاستهلاكي في سلة الطيبات، فإن الله -عز وجل- قد سخر لنا الكون وما فيه، وحرم علينا أشياء معينة، فصَّلها في شرعه العظيم، قال -تعالى-: {وقد فصَّلَ لكم ما حَرَّم عليكم} (الأنعام:119)، ولذا يَحْرُم علينا أن نستهلك ما حرمه الله ورسوله، وما حرم استهلاكُه حرم إنتاجُه، كالخمر وأدوات الميسر ونوادي الفواحش، بخلاف المجتمعات غير الإسلامية والتي تستهلك وتنتج ما يحل وما يحرم؛ وذلك لعدم احتكامها إلى الشرع الحنيف الذي أنزله خالق الأرض والسماوات.

(2) الاستهلاك لإشباع منفعة معينة

     إن الاستهلاك في الإسلام يكون لإشباع منفعة معينة، وإننا نرى المجتمعات غير الإسلامية تستهلك ما يشبع منافعها سواء كانت هذه المنفعة حقيقية أم وهمية؛ حيث قد يقدم الإنسان على شرب الخمر؛ لأنه يرى فيها خلاصَة من الهموم التي تثقله، ولكنها منفعة وهمية؛ ولذا نرى الإسلام لا يقر هذه المنفعة الوهمية، ويقر المنفعة الحقيقية، فنراه حرم الانتحار، في حين ترتفع نسب الانتحار في البلاد غير الإسلامية؛ لأنهم يأخذون بهذه المنفعة الوهمية المزعومة.

(3) الاستهلاك له وظيفة طبيعية

     تتجلى وظيفة الاستهلاك في حفظ الإسلام للضروريات الخمس، حتى أباح للإنسان أن يأكل الميتة حفاظاً على روحه من الهلاك، كما أمره بحفظ طاقاته الجسدية من خلال حفظ النفس، وطاقاته الروحية من خلال حفظ الدين، وطاقاتِه العقلية من خلال حفظ العقل، وهكذا في بقية الأمور، وهذا كله تأكيد لمبدأ وظيفية الاستهلاك في المجتمع المسلم.

 (4) تأمين الكفاية لأفراد المجتمع

     إن منظومة الاستهلاك في النظام الإسلامي تؤمن الكفاية لأفراد المجتمع؛ فالإسلام بتشريعاته يكفل لكل إنسان حدَّ الكفاية؛ حيث إن كفاية الناس تجب بعملهم واكتسابهم أو وفق النظام المحكَم نظامِ النفقات، فإنْ لم يَفِ العمل ولا النفقات، فإن بيت مال الزكاة يجب أن يعطيهم ما يكفيهم ويوصلهم إلى أدنى مراتب الغنى، وإن عجزت ميزانية بيت الزكاة عن ذلك فتُلقى مسؤوليةُ كفايتهم على بيت المال العام بيت مال المسلمين، ويكون ذلك بناءً على أساس حقوقي معتبر في الشريعة الإسلامية وهو الحاجة.

(5) البُعد الأُخرَوي في المنفعة

     إن الاقتصاد الوضعي لا يتعامل إلا مع المحسوسات المادية، بينما يُضيف الإسلام البُعْدَ الأخروي إلى المنفعة والاستهلاك، فترى الأجر العظيم للصدقة والإحسان والقرض الحسن والنفقة على الأقارب والهدايا والصلة وغيرها من ألوان البر والإيثار، بل تجد الإنسان يوازن بينها وبين الاستهلاك المادي المحسوس أحيانا كما فعل عثمان -رضي الله عنه -مع التجار حين أربحوه بتجارته خمسة أضعاف، ولكنه قال: ولكن اللهَ أعطاني فيها عشرة أضعاف، وتصدق بها.

الاستهلاك وسيلة لا غاية

     من خلال الضوابط السابقة وغيرها نرى الاهتمام الرباني الإسلامي بحفظ الفرد والإنسان على وجه الأرض ثم توجيهه الوجهة الصحيحة، فإن النفس تركن إلى المهالك إذا تركناها على هواها، ولسنا في حاجة لأن ندلل على أن الإسلام عد الاستهلاك وسيلة وليس غاية، وقد وقفت الشريعة الغراء موقف الخصم مع الاستهلاك المذموم المعني بالكماليات والإغراق في الملذات حتى صار الغاية والهدف، ولا سيما وأن جشع الإنسان لا يرتوي، يقول ابن قيم الجوزية -رحمه الله-: «وأما المطاعم والمشارب والملابس والمناكح فهي داخلة فيما يقيم الأبدان ويحفظها من الفساد والهلاك وفيما يعود ببقاء النوع الإنساني؛ ليتم بذلك قوام الأجساد وحفظ النوع، فيتحمل الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض ويقوى على حملها وأدائها، ويتمكن من شكر مولي النعم ومسديها».

قيم ناصعة

     هذه القيم الناصعة كفيلة بأن تقضي على أزمات العصر التي أحدثها العالم الاستهلاكي الأجوف من تآكل للموارد الطبيعية، وارتفاع معدلات التلوث البيئي، ومشكلات التخلص من النفايات، هذا فضلا عن تبدل القيم الاجتماعية وإزاحة الفضائل أمام طوفان الغرائز، وما يتبعه ذلك من أمراض عضوية ونفسية، يقول الإمام محمد بن الحسن الشيباني - رحمه الله - في كتابه (الاكتساب من الرزق المستطاب) عن الإشباع: «المسألة على أربعة أوجه: ففي مقدار ما يسد به رمقه ويتقوى على الطاعة هو مثاب غير معاقب، وفيما زاد على ذلك إلى حد الشبع فهو مباح له محاسب على ذلك حسابًا يسيرًا، وفي قضاء الشهوات ونيل اللذات من الحلال هو مرخص له محاسب على ذلك، مطالب بشكر النعمة وحق الجائعين، وفيما زاد على الشبع فإن الأكل فوق الشبع حرام».

تعديل المفهوم الاستهلاكي

     إن الباحث في أمور الاقتصاد لا يجد أحْكَم ولا أنْصَع من التعاليم الإسلامية في ترسيخ قناعة تامة بالترشيد في أمورنا كلها وتفعيل دور سلم الأولويات بتقديم الأهم على المهم، والنظر للاستهلاك على أنه عبادة وطاعة وغريزة فطرية إذا اتسمت بالانضباط دون إفراط ولا تفريط، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم-: «طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية» (رواه مسلم)، قال ابن الأثير: «يعني شبع الواحد قوت الاثنين، وشبع الاثنين قوت الأربعة، وشبع الأربعة قوت الثمانية». ومنه قول عمر - رضي الله عنه - عام الرمادة: «لقد هممت أن أنزل على أهل كل بيت مثل عددهم، فإن الرجل لا يهلك على نصف بطنه»، وقال أيضا الفاروق عمر - رضي الله عنه -: «إياكم والبطنة في الطعام والشراب!؛ فإنها مفسدة للجسد، مورثة للسقم، ومكسلة عن الصلاة».

 

ترشيد الاستهلاك ليس خيارًا

     إنَّ ترشيد الاستهلاك بوضوح ليس خيارًا متاحًا لنا، وليس حرية شخصية، بل هو واجب أخلاقي وديني يتحتم علينا في ظل ما نراه من حالات الفقر الشديد والعائلات التي تحيط بنا؛ فالإنسان العاقل يعلم جيدًا أنَّ الأيام دول؛ فلا المال يبقى كما هو ولا الصحة، فالشاب القوي المعافى في جسده وماله سيأتيه يوم ويصبح كهلا غير قادر على كسب قوت يومه، فعليه أن يعمل لذلك اليوم وأن يدخر لمستقبل لا يعلمه.

 

 

الضابط لمعرفة الإسراف من عدمه

     قال الشيخ عبد العزيز ابن باز -رحمه الله-عن الضابط في معرفة الإسراف من عدمه: قال الله -تعالى-: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} (الإسراء:26) والتبذير: وضع الأموال في غير محلها، صرفها في غير جهة النفع، وقال -تعالى- في صفة النفقة المضبوطة المستقيمة: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (الفرقان:67) يعني: لم يزيدوا في النفقة ولم يقصروا بل أنفقوا وسطًا، فهذا هو المشروع، أما من زاد وأنفق في غير محل الإنفاق فهذا يقال له: إسراف وتبذير، ما زاد على الحاجة يسمى إسرافًا، وصرف المال في غير وجهه يسمى تبذيرًا، وصرف المال في وجهه هذا طيب؛ فالمؤمن يتحرى صرف الأموال في وجوهها، وإذا أنفق في بيته أو على ضيوفه أو على خدامه ينفق وسطًا لا إسراف ولا تبذير، يقول -سبحانه-: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (الإسراء:29) ولكن بين ذلك، فكونه يضع طعامًا زائدًا ولحومًا زائدة ما لها حد ليس هذا من القصد هذا من الإسراف، إلا إذا كان قصد أنه يعطيها الفقراء الزائد يعطيه الفقراء والمساكين فلا بأس.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك