التوحيد وبناء الأمة (4) من آثار التوحيد في النفس
لا يخفى على عاقل ما آل إليه حال أمتنا من الذل ومن الضعف ومن الفقر؛ فقد ذلت بعد عز، وضعفت بعد قوة، وافتقرت بعد غنى، وصارت مستباحة الجانب مهضومة الجناح، وتسلط عليها من لايدفع عن نفسه، وتكالب عليها أعداؤها من كل حدب وصوب؛ لكن عباد الله؛ إذا أردنا أن تعود الأمة إلى عزها ومجدها كسالف عهدها فلا صلاح لها ولا فلاح إلا بما صلح به أولها؛ فقد صلح أولها بتحقيق العبودية لله التي لاتستقيم إلا على ساق التوحيد.
تفريج الكربات
تفريج الكربات؛ فالتوحيد الخالص هو السبب الأعظم لتفريجها في الدنيا والآخرة، وقصة يونس -عليه السلام- من الأدلة على ذلك، قال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} بماذا نادى؟ بمن استغاث؟ ولمن لجأ؟ بكلمة التوحيد {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ}، فماذا كانت النتيجة؟ {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}، بل حتى المشركون يعلمون أن في التوحيد تفريجًا للكربات، قال الله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}.
يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- في القواعد الأربع: القاعدة الرابعة: إن مشركي زماننا أغلظ شركًا من الأولين؛ لأن الأولين يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة، ومشركو زماننا شركهم دائم في الرخاء والشدة.
ويقول ابن القيم -رحمه الله-: فما دفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد، ولذلك كان دعاء الكرب في التوحيد، ودعوة ذي النون التي ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه في التوحيد، فلا يُلقي في الكرب العظام إلا الشرك، ولا ينجي منها إلا التوحيد، فهذا مفزع الخليقة، وملجؤها وحصنها وغياثها.
الحزم والجد
الحزم والجد في الأمور: فإن الموحد جاد حازم؛ لأنه عرف هدفه، وعرف لماذا خلق، وما المطلوب منه، وهو توحيد الله والدعوة إليه؛ فلذلك حرص على عمره، فاستغل كل يوم وشهر، بل والله استغل كل ساعة في عمره، فلا يفوت فرصة للعمل الصالح إلا واستغلها، ولا يفوت شيئًا فيه رجاء لثواب الله إلا وحرص عليه، ولا يرى موقع إثمٍ إلا وابتعد عنه خوفًا من العقاب؛ لأنه يعلم أن من أسس التوحيد الإيمان بالبعث والجزاء على الأعمال، والله -عز وجل- يقول: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الغاية -أي: على الحزم والجد والقوة- فقال صلى الله عليه وسلم : (المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان) مسلم.
لكن شتان بين المؤمن الجاد الحازم الذي يستغل اللحظات، ويقضي العمر في رضا الله والعمل الصالح، وبين المؤمن الضعيف الذي يصارع النفس والشهوات ومغريات الحياة، نعم ابتلي الكثير من المسلمين اليوم -بل حتى من الصالحين- بمصارعة النفس والشهوات، هكذا المؤمن بين أمرين: بين رضا الله وثوابه، وبين الدنيا وشهواتها، وتنبهوا: فكلما ضعف أحدهما قوي الآخر واشتد.
أيها الموحد؛ كن جادًّا حازمًا، فأنت صاحب عقيدة تحمل همها في الليل والنهار، واليقظة والمنام، هكذا المسلم إن حزن فللتوحيد، وإن ابتسم فلتوحيده، وإن حب فلعقيدته، وإن أبغض فلعقيدته، وإن ذهب وجاء فلعقيدته، حياته كلها جد وعمل، فهي وقف لله تعالى.
حفظ هذه النفوس
حفظ هذه النفوس. فما حفظت دماؤنا وأعراضنا وأموالنا إلا بكلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله» فمن قال هذه الكلمة حرم ماله ودمه؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم : «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله» كما في صحيح مسلم. وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أسامة بن زيد -رضي الله تعالى عنهما- قال: «بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات -وهي موضع في بلاد جهينة - قال: فأدركت رجلًا فقال: لا إله إلا الله -أي أنه مشركًا- فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله: أقال لا إله إلا الله وقتلته، قال أسامة : يا رسول الله؛ إنما قالها خوفًا من السلاح، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟ قال: فما زال يكررها عليَّ حتى تمنيت أني ما أسلمت إلا يومئذ» بماذا حفظت هذه النفس؟ بتوحيد الله بلا إله إلا الله؛ لذلك ترجم النووي لهذا الحديث فقال: «باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله». وللحديث بقية إن شاء الله.
لاتوجد تعليقات