التوحيد وبناء أمة (1)
لا يخفى على عاقل ما آل إليه حال أمتنا من الذل ومن الضعف ومن الفقر؛ فقد ذلت بعد عز، وضعفت بعد قوة، وافتقرت بعد غنى، وصارت مستباحة الجانب مهضومة الجناح، وتسلط عليها من لايدفع عن نفسه، وتكالب عليها أعداؤها من كل حدب وصوب؛ لكن عباد الله؛ إذا أردنا أن تعود الأمة إلى عزها ومجدها كسالف عهدها فلا صلاح لها ولا فلاح إلا بما صلح به أولها؛ فقد صلح أولها بتحقيق العبودية لله التي لاتستقيم إلا على ساق التوحيد.
لذلك فاعلم -رحمني الله وإياك- أن التوحيد هو: إفراد الله -تعالى- بالعبادة، وهو دين الرسل الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهو زبدة الرسالات الإلهية وقطب رحاها، بل هو أعظم سلاح يتسلح به المسلم، فهو سلاح العقيدة الصحيحة المستمدة من الكتاب والسنة وما عليه سلف هذه الأمة، وهو أصل ما تزكو به القلوب وتنشرح به الصدور.
قال ابن تيمية: ولهذا كان رأس الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، وهي متضمنة عبادة الله وحده، وترك عبادة ما سواه، وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين دينًا سواه.
فلا إله إلا الله هي كلمة التوحيد، وهي الكلمة التي قامت بها السماوات والأرض.. لا إله إلا الله فطر الله عليها جميع المخلوقات، وعليها أسست الملة، ونصبت القبلة، وجردت سيوف الجهاد.. لا إله إلا الله محض حق الله على جميع العباد، والكلمة العاصمة للدم والمال والذرية في هذه الدار، والمنجية من عذاب القبر ومن عذاب النار، والمنشور الذي لا يدخل أحد الجنة إلا به.. لا إله إلا الله هي حبل الله المتين؛ فما خاب من تعلَّق بحبل لا إله إلا الله وهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وهي رأس الأمر وأسه وأساسه وتاج شجرته وعمود فسطاته وبقية أركان الدين متفرعة عنها متشعبة منها مكملات لها مقيدة بالتزام معناها والعمل بمقتضاها، ومن أجل لا إله إلا الله نصبت الموازين، ووضعت الدواوين، وقام سوق الجنة والنار، وهي التي فرقت الناس إلى مؤمنين وكفار، وميزتهم إلى السعداء أهل الجنة، والأشقياء أهل النار، وبها تكون السعادة والشقاوة، بل لا وصول للسعادة في الدارين إلا بها، فعن لا إله إلا الله يسأل الأولون والآخرون؛ فلا تزول قدما العبد بين يدي الله حتى يُسأل عن مسألتين: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟
فجواب الأولى بتحقيق (لا إله إلا الله) معرفة وإقرارًا وعملًا.
وجواب الثانية بتحقيق أن (محمدًا رسول الله) معرفة وإقرارًا وانقيادًا وطاعة.
وهي أعلى شعب الإيمان وأفضلها؛ عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان».
ولا زكاة للنفوس ولا طهارة للقلوب ولا انشراح للصدور إلا بلا إله إلا الله.
قال ابن القيم عن التوحيد في الفوائد: التوحيد أشرف شيء وأنزهه وأنظفه وأصفاه، وأدنى شيء يخدشه ويدنسه ويؤثر فيه، فهو كأبيض ثوبٍ يكون، يؤثر فيه أدنى أثر، وكالمرآة الصافية جدًّا، أدنى شيءٍ يؤثر فيها ولهذا تشوشه اللحظة واللفظة والشهوة الخفية، فإن بادر صاحبه وقلع ذلك الأثر بضده، وإلا استحكم وصار طبعًا يتعسر عليه قلعه.
وكثير من الناس يغفلون عن حقيقة التوحيد، فيتصور أن التوحيد هو قول لا إله إلا الله فقط، أو أنه الاعتراف بربوبية الله فقط، يردد أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت، ويجهل شمولية هذه العقيدة لجميع جوانب الحياة، لذلك ربما تزعزعت عقيدة التوحيد في نفوس كثير من المسلمين ولم يكن لها أثر في حياتهم، فلا إله إلا الله في كل صغيرة وكبيرة، ولا إله إلا الله في كل حركة وسكنة، ولا إله إلا الله في البيت والمسجد والوظيفة والشارع وكل مكان، هنا -باختصار- يتبيَّن لنا جميعًا أثر لا إله إلا الله في نفوسنا.
لاتوجد تعليقات