التنقص لأي نبي يؤجج الفتن ويوقد الشرور – منزلة الأنبياء ومكانتهم في الشريعة الإسلامية
- جاءتِ الشريعةُ الإسلامية بالرفعة لمكانة الأنبياء واحترامهم جميعًا ومعرفة قدرهم وتوقيرهم ونُصرتهم والنهي عن التنقُّص منهم أو أذيَّتهم أو الاستهزاء بهم
- حفظ حقوق الأنبياء ومكانتهم جميعًا يعني أن تستقيمَ حياة الناس بألا يتعدَّى أحد على مقدسات أحد وهو ما جاءت به الأديان كلُّها
- التنقُّصُ لأي نبي من الأنبياء يؤجِّج الفتن ويوقد الشرورَ ويهدُّ دعائم السلام الذي ينادي به الإسلام على وجهه المطلوب
- الإسلام إنما جاء مكرمًا للبشرية رحمة لهم ولم يأتِ لِيُكفَرَ بمن سبَق من الأنبياء والتشريعات المشتركة المتعلِّقة بالعقيدة
- المسلمون لا يرضون بالمساس والذم والعيب والتنقُّص لأيِّ أحد من الأنبياء ولو أنه سُبَّ نبيّ من الأنبياء في مشارق الأرض ومغاربها لكان المسلمون هم أول من ينتصرون له ويذبُّون عنه
- حذر الله تعالى من التفريق بين الأنبياء وبيَّن أن ذلك كُفر وأن الإسلام الصحيح هو الإيمان بالأنبياء كلِّهم
- التنقُّص مِن أحدٍ من الأنبياء -أيًّا كان- يعَدُّ جريمةً تستوجب العقوبة الشرعية الشديدة، وقد نقل عددٌ من العلماء الإجماع على كفر من فعل ذلك
- نهى الله سبحانه وتعالى عن التفريق بين الأنبياء وجعل عدم التفريق سمةً من سمات المؤمنين
- بعض الناس قد يحمله الغلو على وصف بعض الرسل بصفات لا تليق إلا بالله عزوجل حتى وصل الأمر باعتقاد الألوهية أو الربوبية في بعض الرسل
- شيخ الأزهر يرفض الإساءة لمقام النُّبوَّةِ الرَّفيع، ولم يحترم مشاعرَ المؤمنينَ بالأديان، وبالأخلاق والقِيَمِ الإنسانيَّة الرفيعة، مؤكدًا رفضه المساس بالمعتقدات الدينية
- من المعلوم أن تفضيل الأنبياء بعضهم على بعض صرح به الشرع الحنيف لكن التفضيل بينهم على سبيل التنقص فمنهي عنه
- ولد المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام من غير أب وهو حدث عجيب ولكنه ليس أعجب من خلق آدم الذي خلق من غير أب ومن غير أم
- النصوص التي تحدثت في الإنجيل عن أحوال المسيح عليه السلام ذكرت صفاته البشرية التي يشترك فيها مع سائر الناس
- من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وأشهرها القرآن الكريم وانشقاق القمر ونبع الماء من بين أصابعه وتكثير الطعام وحنين الجذع وانقياد الشجر وتسبيح الحصى
- المسيح عيسى ابن مريم، من نسل داود ومن ذرية إبراهيم -عليهم الصلاة والسلام-، خلقه الله من أم بلا أب بقدرته
- ثبت في الصحيح أن عيسى عليه السلام ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق وأنه يقتل الدجال، وقد رد الله على اليهود الذين زعموا أنهم صلبوه
- من أوضح الأدلة على بشرية عيسى -عليه السلام- أنه لا يعلم الغيب ولو كان إلهًا ما جهل بأشياء لا ينبغي أن تخفى على إله
مركز سلف للبحوث والدراسات - مركز تراث للبحوث والدراسات
الأنبياءُ الكرام هم مَنِ اصطفاهم الله -سبحانه وتعالى- مِن خلقه؛ ليحمِّلهم أمانةَ تبليغِ الرسالةِ الإلهيَّة إلى البشريَّة، فهم يبلِّغون أوامر الله ونواهيه، ويبشِّرون العباد وينذرونهم، ولذلك فإن التنقُّص مِن أحدٍ من الأنبياء -أيًّا كان- يعَدُّ جريمةً تستوجب العقوبة الشرعية الشديدة، وقد نقل عددٌ من العلماء الإجماع على كفر من فعل ذلك، ولذلك فإن ما حدث في افتتاح الأولمبياد التي أقيمت مؤخرا في فرنسا من الاستهزاء والانتقاص من نبي الله عيسى عليه السلام من أعظم السفه وأكبر الخطايا ؛ لأنه يقع على نبي كريم من أولي العزم من الرسل صلى الله عليه وسلم.
1- منزلة الأنبياء في الشريعة الإسلامية
جاءتِ الشريعةُ الإسلامية بالرفعة لمكانة الأنبياء، واحترامهم جميعًا، ومعرفة قدرهم، وتوقيرهم ونُصرتهم، والنهي عن التنقُّص منهم أو أذيَّتهم أو الاستهزاء بهم، ولا شك أنَّ إعطاء هذه الحقوق للأنبياء جميعًا يعني أن تستقيمَ حياة الناس بألا يتعدَّى أحد على مقدسات أحد، وهو ما جاءت به الأديان كلُّها، وإن لم نر ذلك بوضوح في اليهودية والنصرانية؛ للتحريف الذي لحق بتلك الكتب، بل نرى العكس من ذلك من التنقص والازدراء ونسبة النقائص إلى الأنبياء، إلا أننا نؤمن أنَّ احترام الأنبياء وتوقيرهم وعدم التنقص منهم مشترك ديني أوجبه الله على الناس كلهم.
يقول ابن تيمية -رحمه الله-: «والرسالة ضروريَّة في إصلاح العبد في معاشه ومعاده؛ فكما أنَّه لا صلاح له في آخرته إلا باتباع الرسالةِ، فكذلك لا صلاح له في معاشه ودنياه إلا باتباع الرسالة؛ فإنَّ الإنسان مضطرٌّ إلى الشرع، ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضَّار في المعاش والمعاد، فمن أعظم نعم الله على عباده وأشرف مِنَنِه عليهم، أن أرسلَ إليهم رسله، وأنزل عليهم كُتُبه، وبيَّن لهم الصراط المستقيم، ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام والبهائم بل أشرّ حالًا منها، فمن قَبِل رسالة الله واستقام عليها فهو من خير البرية، ومن ردَّها وخرج عنها فهو من شرِّ البرية، فكانت الرسالة والنبوة لمصلحة البشرية، وليس ذلك فحسب، بل كانت رحمةً للعالمين كلهم»، يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: كأني أنظر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبيًّا من الأنبياء، ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»، يقول النووي -رحمه الله-: «فيه ما كانوا عليه -صلوات الله وسلامه عليهم- من الحِلمِ والتصبُّر والعفو والشَّفَقة على قومهم، ودعائهم لهم بالهداية والغفران، وعذرهم في جنايتهم على أنفسهم بأنهم لا يعلمون».2- النهي عن التنقُّص من الأنبياء ومظاهره
في خضمِّ القضايا التي تتعلق بالتنقص بالأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- يحسن التنبيه والتذكير بأنَّ الشريعة الإسلامية جاءت تحارب هذا التنقُّص لأي نبي كان، وليس للنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - فحسب، فمن هذه الناحية كان الإسلام واضحًا وصريحًا في حفظ حقوق الأنبياء كلهم، وهو ما يكون له الأثر البالغ في إرساء السلام المطلوب شرعًا من هذه الجهة، وهو ما يعبر أيضًا عن سمو الإسلام وتعاليمه؛ فليس من شيم المسلمين أنهم يقابلون سبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبِّ أيِّ نبي آخر، بل المسلمون يقدِّرون الأنبياءَ كلَّهم، ويؤمنون بهم كلِّهم، وقد نهت الشريعةُ الإسلامية عن تنقُّص أحدٍ من الأنبياء أو ازدرائه، وقد أكَّدت ذلك بطرائق وأساليبَ كثيرة.أولا: النهي عن التفريق بين الأنبياء
نهى الله -سبحانه وتعالى- عن التفريق بين الأنبياء، وجعل عدم التفريق سمةً من سمات المؤمنين، قال -تعالى-: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 136)، وقال -تعالى-: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} (البقرة: 285)، وقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (النساء: 152)، ففي هذه الآيات جعل الله -سبحانه وتعالى- الإيمانَ بالأنبياء كلِّهم وعدم التَّفريق بينهم سمةً من سمات الإيمان وعلامة من علاماته، بل في الآية الأولى يخبر الله -سبحانه وتعالى- عن المسلمين أنهم يصدِّقون كلَّ الأنبياء، ويؤمنون بكتبهم كلِّها وأنها أنزلها الله عليهم، يقول الطبري -رحمه الله-: «يعني: وآمنَّا -أيضا- بالتوراة التي آتاها الله موسى، وبالإنجيل الذي آتاه الله عيسى، والكتب التي آتى النبيين كلهم، وأقررنا وصدقنا أنَّ ذلك كله حق وهدى ونور من عند الله، وأن جميع من ذكر الله من أنبيائه كانوا على حق وهدى، يصدِّق بعضهم بعضًا، على منهاج واحد في الدعاء إلى توحيد الله والعمل بطاعته، {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} يقول: لا نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض، ونتبرأ من بعض ونتولى بعضًا، كما تبرأت اليهود من عيسى ومحمد -عليهما السلام-، وأقرت بغيرهما من الأنبياء، وكما تبرأت الَّنصارى من محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأقرت بغيره من الأنبياء، بل نشهد لجميعهم أنهم كانوا رسل الله وأنبياءَه، بُعِثوا بالحقِّ والهدى».التفريق بين الأنبياء كفر
وقد حذر الله -تعالى- من التفريق بين الأنبياء، وبيَّن أن ذلك كُفر، وأن الإسلام الصحيح هو الإيمان بالأنبياء كلِّهم، وذلك في قوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (النساء: 150-152). فمن ردَّ نبوةَ واحدٍ من الأنبياء ممَّن ثبتت نبوتُهم فقد كفر بجميع الأنبياء، هذا ما تقوله الشريعة الإسلامية، خلافًا لما يقوله أتباعُ عدد من الأديان -غير الإسلام- من الإيمان ببعض الأنبياء والكفر ببعض، يقول ابن كثير -رحمه الله-: «يتوعَّد -تبارك و-تعالى- الكافرين به وبرسله من اليهود والنصارى؛ حيث فرَّقوا بين الله ورسله في الإيمان، فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض بمجرد التشهِّي والعادة، وما ألِفوا عليه آباءَهم، لا عن دليل قادَهم إلى ذلك؛ فإنَّه لا سبيل لهم إلى ذلك، بل بمجرد الهوى والعصبية، فاليهود آمنوا بالأنبياء إلا عيسى ومحمد -عليهما الصلاة والسلام-، والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا بخاتمهم وأشرفهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، والسامرة لا يؤمنون بنبيٍّ بعد يوشع خليفة موسى بن عمران، والمقصود أنَّ من كفر بنبيٍّ من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء؛ فإن الإيمان واجب بكل نبيٍّ بعثه الله إلى أهل الأرض، فمن ردَّ نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي، تبين أنَّ إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيمانًا شرعيًّا، إنما هو عن غرض وهوى وعصبية... وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} يعني بذلك: أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنهم يؤمنون بكل كتاب أنزله الله، وبكل نبي بعثه الله.ثانيًا: تغليظ العقوبة على من تنقص من الأنبياء
بعد تقرير النهيِ عن التفرقة بين الأنبياء والإيمان ببعضهم دون بعض، ولزوم الإيمان بهم جميعًا، يأتي بيان أن التنقُّص مِن أحدٍ من الأنبياء -أيًّا كان- يعَدُّ جريمةً تستوجب العقوبة الشرعية الشديدة، وقد نقل عددٌ من العلماء الإجماع على كفر من فعل ذلك، يقول القاضي عياض -رحمه الله-: «وكذلك من أضاف إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم - تعمُّدَ الكذب فيما بلَّغه وأخبر به، أو شكَّ في صدقه، أو سبَّه، أو قال: إنه لم يبلغ، أو استخفَّ به أو بأحد من الأنبياء، أو أزرى عليهم، أو آذاهم، أو قتل نبيًّا، أو حاربه، فهو كافرٌ بإجماع» ولا شكَّ أنَّ هذا حكمٌ مغلَّظ، بل هو أشدُّ حكمٍ يُحكم به على الإنسان، وقد ذكر ابن تيمية -رحمه الله- أنَّ من كفر بواحدٍ من الأنبياء فقد ارتدَّ عن دين الإسلام، يقول -رحمه الله-: «فمن خصائص الأنبياء أنَّ من سبَّ نبيًّا من الأنبياء قتِل باتفاق الأئمَّة وكان مرتدًّا، كما أن من كفر به وبما جاء به كان مرتدًّا؛ فإنَّ الإيمان لا يتمُّ إلا بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله.» فالمسلمون ليس فقط لا يرضون بالمساس بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، بل لا يرضَون الذمَّ والعيب والتنقُّص لأيِّ أحد من الأنبياء، ولو أنه سُبَّ نبيّ من الأنبياء في مشارق الأرض ومغاربها لكان المسلمون هم أول من ينتصرون له ويذبُّون عنه.ثالثًا: النَّهي عن تفضيل بعض الأنبياء على سبيل التنقُّص
من المعلوم أنَّ تفضيل الأنبياء بعضهم على بعض من جهة حقيقة وقوع التفاضل أمر صحيح واقع، وقد صرَّح به الشرع الحنيف؛ فإن الله -سبحانه وتعالى- فضل بعض الأنبياء على بعض كما قال -تعالى-: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} (الإسراء: 55)، إلا أن هناك عددًا من الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى فيها عن التَّفضيل بين الأنبياء، مثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تفضِّلوا بين أنبياء الله»، وقد جمع أهلُ العلم بين هذه الأحاديث وبين حقيقة وقوع التفاضل، فكان من أهمِّ الأوجه التي يجمع فيها بين هذه النصوصِ أن النهي عن التفاضل إنما هو إذا كان على سبيل التنقُّص أو ذمِّ النبيِّ الذي فضِّل عليه نبيٌّ آخر، يقول الطحاوي -رحمه الله-: «قال -تعالى-: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} (الإسراء: 55)، وقال -تعالى-: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} (البقرة: 253)، فعلم أن المذموم إنما هو التفضيل على وجه الفخر، أو على وجه الانتقاص بالمفضول»، ويقول ابن حجر -رحمه الله-: «قال العلماء في نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن التفضيل بين الأنبياء: إنما نهى عن ذلك من يقوله برأيه لا من يقوله بدليل، أو من يقوله بحيث يؤدِّي إلى تنقيص المفضول»، وفي حديث النهي عن تفضيل النبي - صلى الله عليه وسلم - على يونس بن متى يقول النووي -رحمه الله-: «قال العلماء: هذه الأحاديث تحتمل وجهين، أحدهما: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قال هذا قبل أن يعلم أنَّه أفضل من يونس، فلما علم ذلك قال: «أنا سيد ولد آدم»، ولم يقل هنا: إن يونس أفضل منه أو من غيره من الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم. والثاني: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قال هذا زجرًا عن أن يتخيَّل أحدٌ من الجاهلين شيئا من حطِّ مرتبة يونس - عليه السلام - من أجل ما في القرآن العزيز من قصته».3- وقفات لابدَّ منها
- الوقفة الأولى: الإيمان بالأنبياء كلهم والنهي عن الكفر بواحد منهم
- الوقفة الثانية: المساس بنبيٍّ واحد كالمساس بالأنبياء كلهم
- الوقفة الثالثة: التنقُّصُ لأي نبي يؤجِّج الفتن ويوقد الشرورَ
4- عقيدتنا في أولي العزم من الرسل ومعجزاتهم
قال -تعالى-: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} (سورة الاحقاف الآية 35)، وأصح الأقوال في ذلك أنهم خمسة: نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنبياء الله: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى -عليهم السلام-؛ والدليل على هذا أنّ الله ذكر الأنبياء ثم عطف عليهم هذه المجموعة، وعطف الخاص على العام يفيد أن للخاص زيادة في الفضل، وذلك في قوله -تعالى-: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} (الأحزاب:7) فالمعنى: واصبر كما صبر أولوا العزم الذين هم الرسل.معجزات نبي الله نوح -عليه السلام
- من معجزات نوح -عليه السلام-، استجابة الله لدعائه وهلاك الكافرين، قال الله -تعالى-: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (القمر: 15).
- ومن معجزاته -عليه السلام-، نَجَاته فِي السَّفِينَةِ بِالْمُؤْمِنِينَ، كما قال -تعالى-: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} (العَنكَبُوت: 15)
- نزول الماء من السماء، وتفجر الأرض ينابيع بالماء حتى هلك قوم نوح، كما قال -تعالى-: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}.
معجزات نبي الله إبراهيم عليه السلام
من معجزات إبراهيم -عليه السلام- خمود النار له، كما قال -تعالى-: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (الأَنبِيَاء).معجزات نبي الله موسى عليه السلام
- من معجزات موسى -عليه السلام-، انقلاب العصا حية تسعى، قال الله -تعالى-: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} (الأعراف: ١٠٧).
- ومن معجزاته -عليه السلام- أنه ضرب الحجر فانفجر منه اثنتا عشرة عيناً، كما قال -تعالى-: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}.
- ومن معجزاته -عليه السلام- انفلاق البحر له فجازه بأصحابه، كما قال -تعالى-: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى}.
- ومن معجزات موسى -عليه السلام- أنه أدخل يده في جيب درعه فخرجت تضئ، كما قال -تعالى-: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى}.
معجزات نبي الله عيسى عليه السلام
- من معجزات عيسى -عليه السلام-، إحياء الموتى، كما قال -تعالى-: {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى}.
- ومن معجزاته -عليه السلام- إبراء الأكمه والأبرص والأعمى كما قال الله -تعالى-: {وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ}.
- ومن معجزاته -عليه السلام- نزول المائدة من السماء، كما قال -تعالى-: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَّا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ}.
- وكان من معجزات عيسى -عليه السلام- إخباره لبني إسرائيل بما في بيوتهم كما قال الله -تعالى-: {وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.
معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
معجزات نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كثيرة، وقد اختلف العلماء في عددها فمنهم من أوصلها إلى ثلاثة آلاف كما قال ابن حجر، ومنهم من قال دون ذلك، وسبب اختلافهم جلي هو أنه لم يرد دليل على حصرها في عدد معين، فطفق كل منهم يعد ما يعتبره معجزة ويبعد ما لا يراه أو ما لم يصح عنده. ومن أجلِّ تلك المعجزات وأشهرها القرآن الكريم، وانشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابعه - صلى الله عليه وسلم -، وتكثير الطعام القليل والماء، وحنين الجذع، وانقياد الشجر، وتسبيح الحصى بكفه، وتسليم الحجر عليه... وغيرها.5- بشرية نبي الله عيسى عليه السلام
بعض الناس قد يحمله الغلو على وصف بعض الرسل بصفات لا تليق إلا بالله -عزوجل-، حتى وصل الأمر باعتقاد الألوهية أو الربوبية في بعض الرسل، كاعتقاد النصارى في المسيح ابن مريم أنه الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة، ولذلك كان لابد من عرض بعض الأدلة على بشرية نبي الله عيسى -عليه السلام.أولا: مولده وحمله -عليه السلام
ولد المسيح عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- من غير أب! وهو حدث عجيب! ولكنه ليس أعجب من خلق آدم الذي خلق من غير أب ومن غير أم {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (آل عمران: 59)، فهو عيسى ابن مريم ابنة عمران البتول المطهرة المصطفاة على نساء العالمين كما قال -تعالى-: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران: 42). وهذا الذي ذكرناه جاء وفق الأناجيل، فقد جاء أنه المسيح عيسى ابن مريم، من نسل داود ومن ذرية إبراهيم -عليهم الصلاة والسلام-، خلقه الله من أم بلا أب بقدرته، كما خاطب جبريل مريم -عليهما السلام- حيث قال لها: «لأنه ليس شيء غير ممكن لدى الله»، حينما تعجبت واستفهمت من جبريل «كيف يكون هذا» أي: «الحمل بعيسى وولادته وأنا لست أعرف رجلاً»، كذلك من أدلة بشرية عيسى -عليه السلام- كما جاء في الأناجيل، أن أمه حملت به عدة الحمل كاملة، ثم ولدته بعد أن لم يكن شيئاً، وختن بعد أن كان أغلف، واكتهل بعد أن كان صبيًّا.ثانيا: الصفات الخلقية
من أدلة بشرية عيسى -عليه السلام- صفاته الخلقية، فهو رجل مربوع القامة ليس بالطويل ولا بالقصير، أحمر، جعد، عريض الصدر، سبط الشعر، كأنما خرج من ديماس، أي: حمام له لمة قد رجلها تملأ ما بين منكبيه، بهذا وصفه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في رحلة الإسراء والمعراج، بل شبهه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعروة بن مسعود الثقفي، فهل يكون إلهاً يشبه البشر؟!ثالثاً: اعترافه بأنه إنسان
فعيسى -عليه السلام- صرح بكونه بشرا، جاء ذلك في صريح الإنجيل أنه إنسان: «أنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله» (يوحنا8/39)، ويقول أيضًا مؤكدًا هذا المعنى: «متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون أني أنا هو» (يوحنا 8/28)، وجاء في قاموس الكتاب المقدس: «ويوجد في الأربعة الأناجيل ثمانية وسبعون مثلاً يستخدم فيها يسوع المسيح هذه العبارة (ابن الإنسان) عن نفسه، حتى حواريو عيسى كانوا ينظرون إليه على أنه إنسان، وهم أعلم الناس به وأقرب الناس إليه فقد خاطبهم فقال: «أتفهمون ما قد صنعت بكم؟ أنتم تدعونني معلماً وسيداً، وحسناً تقولون لأني كذلك». (أعمال الرسل 11/22)رابعًا: كونه يأكل ويشرب
أثبت الله نبوة عيسى -عليه السلام-، وجعل من دلائل ذلك كونه يأكل ويشرب فقال -تعالى-: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (المائدة: 75)، والنصوص التي تحدثت في الإنجيل عن أحوال المسيح -عليه السلام-، ذكرت صفاته البشرية التي يشترك فيها مع سائر الناس من كونه يأكل ويشرب، فقد ولد من فرج امرأة متلبطاً بدمها «وبينما هما هناك تمت أيامها لتلد» (لوقا2/6)، ورضع منها كسائر أطفال البشر «وفيما هو يتكلم بهذا رفعت امرأة صوتها من الجميع وقالت: طوبى للبطن التي حملك، والثديين اللذين رضعتهما» (لوقا 111/ 17) بل إن المسيح جاع كما يجوع البشر، وبحث عن طعام ليأكله «وفي الصباح إذ كان راجعاً إلى المدينة جاع» (متى 21/28)، كما عطش «قال: أنا عطشان» (يوحنا19/28).خامسا: كونه يحزن ويفرح ويبكي
أصاب المسيح -عليه السلام- كل ما يصيب البشر من عوارض بشرية من حزن وفرح وبكاء وحزن، حتى اكتئب -عليه السلام- كما جاء في الإنجيل «وبدأ يدهش ويكتئب» (مرقس14/33)، وأحيانًا كان يجتمع عليه الحزن والاكتئاب «بدأ يحزن ويكتئب» (متى 26/37)، ولما كان البكاء من عادة البشر إذا ما اعتراهم الضعف والأسى، فإنه أحياناً كان يبكي كسائر البشر «بكى يسوع» (يوحنا11/35)، وتذكر الأناجيل حزن المسيح -عليه السلام- ليلة الصلب وغيرها حتى كاد يموت «إن نفسي حزينة حتى الموت» (مرقس 14/32) بل تزعم الأناجيل أنه لما وضع على خشبة الصلب جزع وقال: «إلهي إلهي، لم تتركني» (مرقص 15/34)، فهل الرب يجزع ويحزن ويكتئب حتى يوشك على الموت؟!! سبحانك هذا بهتان عظيم.سادسا: كونه يمرض
أصاب المسيح -عليه السلام- ما يصيب البشر من المرض والتعب فقد نام كما ينام البشر «وكان وهو نائماً» (متى 8/24)، وتعب كسائر البشر «كان يسوع قد تعب من السفر» (يوحنا/6)، وختن في ثامن أيام ولادته «ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمي يسوع» (لوقا 2/21)، فهل دار في خلد الذي ختنه أنه يختن إلهاً؟!! وماذا عن القطعة التي بانت منه؟! هل غادرتها الإلهية بانفصالها عن الإله المتجسد؟!! أم بقيت فيها الإلهية حيث ضاعت أو دفنت؟!سابعا: كونه يموت
عيسى -عليه السلام- رفع إلى السماء، وهو حي يوشك أن ينزل، وقد ثبت في الصحيح أن رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ المَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ»، وثبت في الصحيح أنه ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق وأنه يقتل الدجال، وقد رد الله على اليهود الذين زعموا أنهم صلبوه فقال: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِم شَهِيدًا}، ثم إنه يمكث في الرض بعد نزوله أربعين سنة ثم يموت كما جاء في الحديث «فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ»، ولن يموت حتى يحج البيت أو يعتمر كما في الصحيح عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ، حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا».ثامنا: كونه عبدًا يظهر التضرع والتذلل لله -عزوجل
كانت أول الكلمات التي تكلم بها المسيح -عليه السلام- قوله: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}، وتبرأ ممن زعموا أنه -عليه السلام- دعاهم لعبادته، ففي موقف مستقبلي مهيب، يرسم القرآن الكريم مشهداً جليلاً يصور فيه موقف المسيح مع إخوانه الأنبياء بين يدي الله -تعالى- يوم الحساب: {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ}، وفي الإنجيل أنه -عليه السلام- دعا إلى عبادة الله وحده، والتوجه إليه بالصلاة والدعاء فقال: «فصلوا أنتم هكذا أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك يأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض»(متى6/10). وذكرت الأناجيل تذللـه -عيه السلام- لله -عز وجل- وخضوعه له وتضرعه بين يديه « وكان يصلي قائلاً: يا أبتاه، إن أمكن أن تعبر عني هذا الكأس، ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت» (متى 26/39)، ويصور لوقا صلاته فيقول: «جثا على ركبتيه» (لوقا22/41)، بل «وخرج إلى الجبل ليصلي، وقضى الليل كله في الصلاة لله» (لوقا 6/12) فلمن كان الإله يصلى طوال الليل؟!! هل يصلي لنفسه؟ أم للآب الذي حل فيه بزعمهم؟!! بل كان يصلي متوارياً ويصبح عرقه دماً غزيراً من كثرة العبادة يقول لوقا: «وإذا كان في اجتهاد كان يصلي بأشد لجاجة، وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض» (لوقا22/44).تاسعًا: كونه لا يعلم الغيب
من أوضح الأدلة على بشرية عيسى -عليه السلام- أنه لا يعلم، الغيب ولو كان إلهًا ما جهل بأشياء لا ينبغي أن تخفى على إله، وهذا ما جاء واضحًا جليًا في أناجيل النصارى أنفسهم، ومنها جهله بيوم القيامة، فقد قال: «أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بها أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن إلا الآب» (مرقص 13/32)، وليس ما يجهله المسيح هو موعد القيامة فقط، بل كل ما غاب عنه فهو لا يعلمه، ولذا نجده عندما أراد إحياء لعازر يسأله «فانزعج بالروح واضطرب وقال: أين وضعتموه؟» (يوحنا 11/33)، لذا فإن أصدق قول في المسيح هو قول ربنا عز وجل: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (المائدة: 75).6- حكماء المسلمين برئاسة الأزهر يستنكر الإساءة للمسيح عليه السلام
بعض الناس قد يحمله الغلو على وصف بعض الرسل بصفات لا تليق إلا بالله -عزوجل-، حتى وصل الأمر باعتقاد الألوهية أو الربوبية في بعض الرسل، كاعتقاد النصارى في المسيح ابن مريم أنه الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة، ولذلك كان لابد من عرض بعض الأدلة على بشرية نبي الله عيسى -عليه السلام. استنكر مجلس حكماء المسلمين برئاسة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب العرضَ الذي جاء ضمن حفل افتتاح أولمبياد باريس 2024، ومثَّل إساءة للسيد المسيح -عليه السَّلام-، ولمقام النُّبوَّةِ الرَّفيع، ولم يحترم مشاعرَ المؤمنينَ بالأديان، وبالأخلاق والقِيَمِ الإنسانيَّة الرفيعة، مؤكدًا رفضه الدائم لكلِّ محاولات المساس بالرموز والمعتقدات والمقدسات الدينية، وقال مجلس حكماء المسلمين في بيان له: إن الفعاليات الرياضية يجب أن تكون منصة للاحتفاء بالتنوع الثقافي وتعزيز الاحترام المتبادل بين الشعوب، محذرًا من خطورةِ استغلالِ هذه المناسبات لتطبيع الإساءة للدِّين، وترويج الأمراض المجتمعيَّة الهدَّامة الخارجة عن الفطرة البشرية، وفرض نمط حياة ينافي الفطرة الإنسانيَّة السَّليمة. بدوره، دان الأزهر مشاهد الإساءة التي تصدرت افتتاح دورة الألعاب الأولمبية في باريس، وأكد -في بيان له- أن الإساءة إلى السيد المسيح أو إلى أي نبي من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- تُعد تطرُّفاً وهمجية طائشة، لا تحترم مشاعر المؤمنين بالأديان والأخلاق والقيم الإنسانية الرفيعة.انتقادات رسمية لحفل الافتتاح
وفي هذا الصدد طالت حفل الافتتاح انتقادات من داخل فرنسا وخارجها، ففي بيان لهم عبَّر الأساقفة الكاثوليك الفرنسيون عن اعتراضهم على تضمن الحفل لمشاهد، تسخر من المسيحية وتستهزئ بها، كما شن رئيس الوزراء المجري (فيكتور أوربان)، هجوما لاذعا جديدًا انتقد فيه ضعف الغرب وتفككه، وهو ما تجلى برأيه في الحفل، وتعليقا على المحاكاة الساخرة للوحة العشاء الأخير للمسيح، قال أوربان: إنهم يتخلون تدريجيا عن الروابط الروحية والفكرية مع الخالق والوطن والأسرة؛ مما أدى إلى تدهور القيم الأخلاقية العامة في المجتمع، وبدوره زعم السياسي اليميني المتطرف الهولندي (خيرت فيلدرز)، أن المشاركين في الحفل كانوا يسخرون من المسيحية.
لاتوجد تعليقات