رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عمر شحات 11 مايو، 2011 0 تعليق

التمييز في القرآن الكريم والسنة المطهرة (1من 2)

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد: فمن فضل الله تعالى وكرمه وإحسانه علينا  أن جعل ديننا الحنيف سهلاً ميسراً وليس هذا فحسب, بل اشتملت آياتُهُ البينات على أساليب بلاغية تناسب كل الأفهام، وضرب الله تعالى الأمثال لزيادة الإيضاح والبيان، ومن ذلك أسلوب التمييز, الذي يأتي للتفريق بين القُبْحِ والحُسْنِ، والباطل  والحق، والشر والخير, وتقول العرب: مِزْتُ الشيءَ أَمِيزُه مَيْزاً: عزلته وفَرَزْتُه،  ويأتي في سياق هذا المعنى قول الشاعر: فالضَّدُّ  يُظْهِرُ  حُسْنَه الضَّدُّ... وبِضِدها تتبّينُ الأشيــاءُ

      وأفضل من ذلك قول الله تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (الأنفال: 37)، وقال تقدست أسماؤه: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 179).

       فهذا المقال الذي جاء بعنوان: «التمييز في القرآن الكريم والسنة المطهرة» اشتمل على  آيات بيّنات من القرآن الكريم،  وأحاديث من السنة النبوية المطهرة لها دلالات ساطعات  يسهل على الإنسان فهمها واستخلاص العظات واختيار ما ينفع في الحياة وبعد الممات، وترك السيئات وكسب الحسنات؛  فإن الإنسان يقع منه الخير والشر، قال ابن القيم  رحمه الله: فإن في كل منا نفسَينْ، نفسا أمّارة، ونفسا مطمئنة،   والخير كله مع النفس المطمئنة، والباطل كله مع النفس الأمّارة. اهـ.

       وهذا التمييز يحثُ النفسَ المطمئنة على اختيار الخير وتغليبها على النفس الأمّارة. وقيل: لو أن الإنسان خُـيّرَ بين خزف باق وبين ذهب فانٍ لاختار الباقي على الفاني  ، فكيف إذا كان الذهب هو السعادة في الدنيا والآخرة هو الباقي، والخزف وهو الدنيا ومتاعها وزخرفها هو الفاني، والمقارنة بين الشيء وضده تزيد الحق ضياء وبهاء وجلاء، والباطل قبحاً وسوءاً ونفوراً، وبذلك يُقبلُ المسلمُ على الخيرِ ويبتعدُ ويَنفِرُ ويحذر من الشر ويبغَضُهُ.

      وشتان بين الأمرين والبون بينهما شاسع، والفرق بينهما كبير وكبير؛ قال تعالى: {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون} (السجدة:18-20)، فوالله ثم تالله لا يستوي الخير والشر والظلمات والنور ولا الظل ولا الحرور؛ قال ربنا وخالقنا تبارك وتعالى: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} (الجاثية:21)، وقال الله تقدست أسماؤه وتنزهت صفاته: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار}(ص:28).

      فمن تجردَ من الهوى والشيطان يجد أن طريق الحق والخير واضح وسهل وميسر أمامه بلا عناء ولا ريبة، ثم إن الله تعالى يعلمُ المُفسدَ من المصلح، ومن رحمته أن يسرَ لهم اختيار ما ينفعهم وأمرهم بترك ما يضرهم ويسوؤهم؛ حتى لا يضلوا ويزلوا  ويروا  أعمالهم حسنة وهي في الواقع سيئة وعاقبتها خسراناً مبيناً, قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (الكهف: 103-104)، أي أشد الناس خسراناً وبوارا الذين ليس لحياتهم ثمرة ولا فائدة الذين لم تكن أعمالهم في  الحياة الدنيا على هدى واستقامة  وتخالف ما أمر الله به, وما أرشدت إليه السنة المطهرة، ولا نكاد نرى  مقارنة إلا  وهي تتضمن في ثناياها بيان وتوضيح أي من المقارنتين خير والدليل الواضح البيّن والبرهان الساطع للهدى والرشاد؛ فمن وُفق للصواب فاز بالثواب ونُجّي من العذاب، أما من عاند وخالف واتبع هواه والشيطان خاب وخسر.  

      وفي هذا السياق: النفي والإثبات كما في  شهادة «أن لا اله إلا الله»، فهي تنفي  عبادة الآلهة وهي شرك، واثبات العبادة  للإله الحق وهو الله تبارك وتعالى «التوحيد» وهو أنقى شيء في حياة المرء وأطهره وأشرفه  وبذلك يُنقى مما يخدشه أو يُدنسه.

      ولقد زاد الأمرَ ضياء هذه الآية الكريمة  كما في قول الله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَلا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (يس: 60 - 61)، هنا نهي وإثبات: النهي عن عبادة الشيطان الذي هو عدو للإنسان،  وليس المراد هو السجود للشيطان فقط، لكن عبادته لها صور شتي، كما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي[ قال: «تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة: إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض».

أما الإثبات فهو العبادة لله وحده  فذلك هو الطريق المستقيم والحق المبين.

      وهذه الآية الكريمة تُميز الخير وتحض وتأمر به وترغب فيه، وتنهى عن الشر وتُنفر وتحذر من عواقبه؛ لأن عبادة الشيطان واتباع خطواته  فيها الضلال والهلاك،  ولكن عبادة الله وحده هي الصراط المستقيم. ولقد أحسن  شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذ قال: أفضل دعاء قول الإنسان:  اهدنا الصراط المستقيم.ا.هـ.  فإن  الدعاء الخالص هو عبادة الله وحده.

      وأيضا فقد أرشد الله تعالى عباده وميز لهم سُبل الهدى كما في قوله تقدست أسماؤه: {قُلِ الْحَمْدُ للَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ  أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمْ مَنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (النمل: 59 -64).

      وهذا البيان الذي يُعدد فيه الله تعالى شيئاً من نعمه على عباده  ألا يستحق صاحب هذا الإنعام أن يكون هو المعبود وحده وحقه علينا  الشكر  على نعمه التي لا تُعدُ ولا تُحصى؟! وترك تأليه من لا يملك لنفسه ولا غيره ضراً ولا نفعا.

      ولقد أحسن ابن القيم حين قال: فإن من لطائف التعبد بالنعم أن يستكثر العبدُ قليلها عليه، ويستصغر كثير شكره عليها. اهـ.  فما بالك إن كانت النعم كثيرة لا تُعد ولا تحصى؟! {وقليل من عباده الشكور}.

      فإن  اختار العبد الأفضل والأنفع  لاختار عبادة الله الواحد القهار صاحب الإنعام والفضل الذي لا يقدر عليه سواه تبارك وتعالى، فكان التمييز زيادة في إزالة الشبهات والتلبيس وتقعيد قواعد التوحيد لأحقية الله تعالى وحده بالعبودية والألوهية وبذلك يفوز الإنسان في الدارين، والله تعالى أنزل نوراً ساطعاً وبرهاناً بيّناً لزيادة الإرشاد والتوفيق والسداد لجميع الناس، فقد أخبرهم تبارك وتعالى ببرهان عظيم، وضياء واضح وهو الدليل القاطع للعذر والحجة المزيلة للشُبه؛ قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} (النساء: 174).

      وبعد هذا التبيان وغيره من الآيات الظاهرة في الكون وفي أنفسنا وما هو مشاهد من الدروس حري بالمرء أن يأخذ العِبر ويعتبر،  وإلا فما فائدة العقل الذي تميز به الإنسان عن الحيوانات والجمادات؟! والعجب أن ترى  البعض يؤثرون كساد تجارتهم على رواجها  ونمائها،  وعلى المرء أن يستفيد مما يعلم،   وليس فقط تعلم ما ينفع.

      وعلى المرء أن يحرص على ما ينفعه بالتجرد من الهوى وبذل الوسع في تلمُّس طريق الضياء والخير والرشاد، فإن غُم عليه فليسأل أهل  العلم؛ عملاً بقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43). وقال تعالى أيضا: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (الأنبياء: 7).

      وعلى أهل العلم والعلماء، وذوي الحكمة والحكماء، والأشراف من الناس الذين  اشتهرت أمانتهم وذاعت بين الناس عدالتهم (ولوكانوا قِلّةً) عليهم دور كبير في النصيحة  والدلالة على الخير خاصة بعد ما رأوا غيرهم ممن يؤثرون الغث على الثمين ويرغبون في الذي هو أدني على الذي هو خير مع أن الله تعالى بيّن لنا في كتابه العزيز بياناً ناصعاً؛ قال تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} (المائدة: 100).

      قال ابن كثير – رحمه الله -: إن القليل الحلال النافع خير من الكثير الحرام الضار كما جاء في الحديث: «ما قل وكفى خير مما كثُر وألهى» ا.هـ.

      وهذا الإرشاد من الله تعالى تسهيلاً وتوضيحاً وتمييزاً لعباده ليسهل عليهم اختيار  الطيب واجتناب الخبيث في الأمور كلها، وإن ما ارتضاه الله تعالى لعباده لهو الخير والفلاح لهم في الدنيا والآخرة؛ فإن الله تعالى عليم بما يُفسد الحياة الدنيا والآخرة مما يُصلحهما؛ فإن الحياة بها من الأخلاط والأهواء العجيبة ما يجعل الأفكار تتلاطم جوانبها وتتشابك أطرافها، وتتلبد غيومها، وكثرة فتنها، حتى يصبح الحليم فيها حيرانا، لكن الله الكريم المنان لم يتركنا سدى، ومن فضله وإحسانه أن بيّن لنا الطرق  المستقيم حتى نختار طرق الرشاد وننأى عن طريق الغواية والفساد؛ قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (الإنسان: 3).

      فعلى أصحاب العقول الراجحة وأولي الألباب والفِطر السليمة ان يختاروا لأنفسهم مع أي الفريقين؛ قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}، ولا شك أن  سليم العقل وثاقب البصر وأهل البصيرة النافذة الذين  ينظرون في عاقبة الأمور  سيختارون النفيس ويجتنبوا الخسيس ،  ويُقبلون على الدرجات العلا،  ويعملون للنجاة من الدركات السفلى،  ويفضلون الخير على الشر، والنعيم المقيم على العذاب الأليم، والحلال على الحرام،  والراجح على المرجوح، ويكُثِرُوا من شكر الله تعالى على النعم باللسان والأركان وأداء حقوقها؛ فإن في شكرها وزكاتها نماء لها وكثرة بركاتها؛ قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7). 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك