رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عمر شحات 17 مايو، 2011 0 تعليق

التمييز في القرآن الكريم والسنة المطهرة (2من 2)

 

استكمالاً لما جاء في المقال السابق في العدد الماضي من الآيات البينات والدلالات الباهرات على حث المسلمين والمسلمات على كسب الحسنات ودفع السيئات: فعلى الرغم من البيان والتبيان والوعد والوعيد نجد أن هناك من يختار الذي يضُر ويترك ويدع ما ينفع، ويندفع بلا تريث ويقع في الشهوات والشبهات حتى يصل إلى التهلكة، وإذا أراد أن يفيق يجد أن الشمس قد غربت، وسفينة العمر قد غرقت في الأوهام والأوحال، ودهمه الظلام، وأحاطت به الهوام.

       ومن آيات التمييز  الآيات المحكمات في قول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يبيِّن اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران: 103).

       جاء في التفسير: أي تعلقوا بأسباب الله جميعا، وتمسكوا بدين الله الذي أمركم به, وعهده الذي عهده إليكم في كتابه إليكم من الألفة والاجتماع على كلمة الحق والتسليم لأمر الله؛ فإنه السبب الذي يوصل إلى البغية والحاجة, وزوال الخوف والنجاة من الجزع والذعر، وقيل: حبل الله: الجماعة، وإن الصراط تحضُره الشياطين, ينادُون: يا عبد الله هلم هذا الطريق! ليصدوا عن سبيل الله، لكن النداء الرباني لعباده - وهو عز وجل يرضى لهم الايمان ويكره لهم الكفر - عليكم بالاعتصام بحبل الله, وحبل الله هو كتاب الله, وجاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله[: «كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض». وقال آخرون: بل ذلك هو إخلاص التوحيد لله.

       أما نهي الله تعالى عن التفرق: {ولا تفرقوا} فيعني جل وعلا: ولا تتفرقوا عن دين الله وعهده الذي عهد إليكم في كتابه من الائتلاف والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله[ والانتهاء إلى أمره، وأن الله عز وجل قد كره لكم الفرقة, وحذركموها, ونهاكم عنها, ورضي لكم السمع والطاعة والألفة والجماعة, فارضوا لأنفسكم ما رضي الله لكم، وجاء في حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله[: «إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة , وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة». قال : فقيل: يا رسول الله, وما هذه الواحدة؟ قال: فقبض يده وقال: «الجماعة»، وكما قيل في ذلك: «يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة فإنهما حبل الله الذي أمر به, وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة هو خير مما تستحبون في الفرقة»، فعلينا أن نختار حبل الله ونتمسك به ونترك الفرقة والتشتت.

        ومن المثال يتضح المقال، قال الله تبارك وتعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ  وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (النحل: 76).

       قال ابن كثير: عن ابن عباس: فالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء مثله كالكافر،  فهل يستوي مع المرزوق الرزق الحسن الذي ينفق منه سرا وجهرا والمؤمن، ولما كان الفرق بينهما ظاهرا واضحا بيّنا قال الله تعالى: {الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون}.

       كذلك  فقد ذم الله تعالى  بني اسرائيل على ضحالة فكرهم وتفاهة عقولهم، قال الله تعالى: {... قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير} (البقرة: 61)،  ذلك  لما أرادوا ترك ما أنعم الله به عليهم وطلبوا ما دون وأقل من هذا الإِنعام؛ لهذا يجب  على الإنسان أن يتفكر دائماً فيما حوله من الآيات الواضحات البيّنات وأخذ العِبر النافعات  في جميع أحواله وأعماله ويمعن النظر في حاله ومآله  وعاجله وآجله.

       ومن تمييز  الخير عن الشر في أمور الدنيا وما يترتب عليها من خير وشر في الآخرة  قول الله تعالى وهو يحذر المسلمين وعدم الاستهانة باختيار الزوج أو الزوجة؛ قال جل وعلا: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (البقرة: 221). قال ابن كثير: أي إن الرجل المؤمن ولو كان عبدا حبشيا خير من المشرك وإن كان رئيسا سريا {أولئك يدعون إلى النار} أي معاشرتهم ومخالطتهم تبعث على حب الدنيا واقتنائها وإيثارها على الدار الآخرة، وعاقبة ذلك وخيمة في الوقت الذي يكون فيه المؤمن داعيا لحب الآخرة والرغبة فيها والزهد في الدنيا وعاقبة ذلك حميدة .

    كذلك تمييز البخل  والإسراف  ويُفهم من ذلك التوسط بينهما بالاعتدال؛ قال تبارك وتعالى أيضا: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (النحل: 29)، قال ابن كثير: فإن الله تعالى أمر بالاقتصاد في العيش ذاماً للبخل ناهياً عن السرف، ولا يكن الإنسان بخيلاً منوعاً لا يُعطي أحداً شيئاً، ولا يُسرف في الإنفاق فيُـعطي فوق طاقته ويُخرج أكثر من دخله فيقعد ملوماً محسوراً، وهذا تمييز رائع للخير عن طرفي الشر المذموم في الأمور المعيشية والاجتماعية؛ فإن البخيل مذموم من الله مكروه من الناس، وكما قيل فإن البخل يطمس كل فضيلة، وكذلك المسرف المبذر فإنه لا شك سيندم، لكن الكرم والجود (وهو الوسط بين البخل والتبذير)  فإنه يطمس كل عيب.

       ومن لطائف التمييز الذي ورد بالسنة المطهرة ما ورد في صحبح مسلم عَنْ أبِي مُوسَى - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ[ قَالَ: «مَثَلُ الجَليسِ الصَّالِحِ والجليس السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أنْ يُحْذِيَكَ، وإِمَّا أنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإمَّا أنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إمَّا أنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإمَّا أنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً»، ذلك أن الجليس والصديق والقرين الصالح إذا لم تستفد من دعوته ونصحه ودلالته للخير فإنك ستستفيد من أخلاقه ومعاملاته وسلوكه وهذا مثل العطار إن لم تشتر منه أهدى إليك أو أصابك من ريحه وعطوره الطيبة،   وفي المقابل فإن الصديق والصاحب والجليس والرفيق السوء لابد أن تكون دلالته وجلسته وكلامه في الشر والعصيان والذم  واقتراف السيئات، وذلك يتشابه مع الحداد صاحب الكير إن لم يصبك من ناره وشررها ما يحرق ثيابك أصابك من دخانه وملوثات الهواء  فأيهما ستختار أخي  الكريم؟

       وقال تعالى أيضا: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (المؤمنون:102-103) أي من رجحت حسناته على سيئاته ولو بواحدة فازوا فنجوا من النار وأدخلوا الجنة، وقال ابن عباس: أولئك الذين فازوا بما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربوا، وفي المقابل فمن  ثقلت سيئاته على حسناته خابوا وهلكوا وخسروا وكانوا من أهل النار، فكيف يرضى الإنسان لنفسه أن يُحرم من الجنة ويكون من أهل النار بسبب أعماله (حسناته وسيئاته)  فأي الفريقين تريد لنفسك أيها المسلم؟  والفرق شاسع والبون بينهما عظيم  لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى.

        وهكذا في أحوال كثير من الناس تجدهم يعلمون أن صلة الأرحام تطيل العمر وتزيد  في الرزق، وقطيعة الأرحام على العكس من ذلك، ومع هذا ترى من يختار قصر العمر وقلة في الرزق  بسبب اختياره هو  ورغبته هو،  كذلك مثل المنفق والبخيل، وطاعة رسول الله[ ومعصيته؛ فمن أطاعه دخل الجنة ومن عصاه لم يدخلها، أيضا الربا والبيع الحلال، وهكذا يندرج على سائر الأعمال في مسيرة الحياة.

       كما أخرج الامام البخاري أن رسول الله[ قال: «الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ»، أي إنك لا تدري أي الحسنات التي يرحمك الله بها ولا تدري أي السيئات يكون الهلاك بسببها والوقوع في النار؛ ذلك أن المرء قد يفعل اليسير من الحسنات (حسب ظنه) فيكتب له الفلاح والنجاح والفوز بالرضوان بسببها، وكذلك قد يفعل اليسير من السيئات (وفق معاييره هو) فيكون ذلك سببا في هلاكه وخسرانه؛ فإن إبليس أُخرج من الجنة بسبب سجدة واحدة لم يسجدها، وآدم عليه السلام أُهبط من جنة الخلد بسبب لقمة أكلها؛ فلا يستصغر الانسان السيئة وإن هانت عليه، ولا يُقلل من أجر الحسنة وإن صغرت في عينه. وقال سفيان بن عيينة:  إبليس ترك السجود كبراً فطرده الله من رحمته، لكن آدم عليه السلام أكل لقمة بشهوة ثم تاب فتاب الله عليه،  ونبي الله موسى وكليمه عليه الصلاة والسلام لما قتل نفساً من بني إسرائيل تاب ورجع إلى الله فتاب الله تعالى عليه؛ قال الله تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}  (القصص  15  -  16).

        لذلك كان هذا التمييز بين الأمرين من دواعي إقبال المسلم على الحسنات واجتناب السيئات، ولا يرتكب السيئة كبرا وعلواً، ولا يستهين بها  ولا يستصغرها، قال الله تعالى:  {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}  (النور: 15)،  وفي الصحيحين: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يدري ما تبلغ يهوي بها في النار أبعد مما بين السماء والأرض».

       ولكن على المسلم إن وقع في السيئة أن يبادر بالتوبة والاستغفار والإنابة والرجوع إلى الله تعالى غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب؛ قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ  وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} (الزمر: 53-55)،

        ونختم بهذه الآية الكريمة وهي قول الله جل وعلا: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 122)، ذلك الذي كان غارقا في ظلمات الكفر والجهل والمعاصي كالميت، هل يستوي هو ومن أحياه الله بنور العلم والإيمان والطاعة فصار يمشي بين الناس في النور متبصرا في أموره مجتهداً في نفع نفسه وغيره، عارفا للشر مبغضا له ومحذرا منه؟! فهذا تمييز من الله تعالى وتنبيه منه جل وعلا  بأن كل من الفريقين لايستويان كما لا يستوي الحي والميت والليل والنهار ،  والضياء والظلمة .

والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك