التلبية.. ومعاني الحب والشوق إلى الله -تعالى
قال جابر - رضي الله عنه - في حديث حجة الوداع: «فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ. وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ؛ فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْهُ، وَلَزِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَلْبِيَتَهُ» (رواه مسلم).
التلبية: هذا الدعاء العظيم، والذِّكْر الكَنز، الذي يفجر في القلب ينابيع الحب والشوق إلى الله -سُبْحَانَهُ؛ فإن الإنسان الصغير الضعيف المحتاج الذي لا يشغل مِن الزمان والمكان شيئًا يُذكر بل وجوده كالهباءة المنثورة- إذا استشعر أن الله -سُبْحَانَهُ- الذي هو الخالق، العلي الكبير العظيم، الغني، الأول الذي ليس قبله شيء -حين كان هو عدمًا محضًا-، الآخر الذي ليس بعده شيء -فالخلق كلهم يموتون-، الظاهر الذي ليس فوقه شيء، الباطن الذي ليس دونه شيء، القوي العزيز، هو الذي يريده ويناديه على ألسنة رسله وفي كتبه المنزلة، يريده لعبادته ومَحَبَّتِه، واصطفاه مِن بيْن خلقه بنوعٍ خاص مِن العبودية؛ إذ أوجده في وسط المخالفات، في وسط مَن يفسد في الأرض ويسفك الدماء؛ ليعرفه ويعبده، ويدافع ويقاوم، ويجاهد ويراغم، ويتحمل الغربة في وسط أنواع الفساد؛ فالعبد في داخل نفسه يجد مخالفات (شهوات ورغبات محرمة)، وحوله مخالفات (شياطين الإنس والجن، وأعمالهم، ومكرهم وكيدهم) والله -سُبْحَانَهُ- اجتباه مِن ذلك واختصه بأعلى أنواع التكريم، وأَمَرَه ونَهاه، ودعاه إليه بدار السلام، وهداه الصراط المستقيم، وفي هذه الدنيا دعاه لكي يكون ضيفًا عليه في بيته الحرام.
إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي
فأنتَ أيها المؤمن كنت مُرَادًا حتى تكون مُرِيدًا مخلصًا، وأُخلِصت فأَخلَصت؛ فأنت مُخْلَص مُخْلِص، كنت قبْل وجودك مِن أهل قبضة اليمين وعرفك الشيطان فاستثناك مِن الإغواء حين {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}(ص:82-83)؛ فأنتَ مِن المخلَصين حتى تكون مِن المُخْلِصين، وربك يناديك؛ فما أَجَلَّ أن تقول، وما أعظم أن تقول، وما أحلى أن تقول: (لبيك)! أنا يا ربي ذاهب إليك، مجيب لأمرك بقلبي وبدني {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} (الصافات:99)، هل تحاول استشعار معنى: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي}؟
هجرة القلب
ومعنى الهجرة بالقلب والسفر إليه في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ» (رواه البخاري). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ» (رواه مسلم)، فلما كانت العبادة في الفتن تماثل ثواب الهجرة إليه - صلى الله عليه وسلم -؛ ذلك لأنها هجرة بالقلب إلى سُنَّتِه وطريقته في عبادة الله؛ فهل نَلِج باب هذا الفضل العظيم في زمان الفتن؟! فرصة عظيمة أن نكون من المهاجرين؛ فهل نغتنمها؟!
إجابة بعد إجابة
وليست الإجابة لله -سُبْحَانَهُ- مرة واحدة ثم تنقطع؛ بل هي إجابة بعد إجابة، وإقامة بعد إقامة، على طاعته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وهذا سر التثنية في لفظ التلبية؛ لذلك يكرر المؤمن الاستجابة لأمر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مَرَّةً بعد مرة، ليس مرتين فقط، ولكن يكرر ذلك؛ فهو قد أعلن الإجابة وواظَب عليها، وأَقَرَّ بالطاعة وامتثال الأمر وواظَب على ذلك، «قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ» (رواه مسلم)، وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكما أخبر -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عن عباده المؤمنين: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (فصلت:30).
يحتاجها المؤمن دائمًا
هذه التلبية يحتاجها المؤمن دائمًا، وقد سئل الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- عن التلبية للحلال فقال: «لا بأس بالتلبية للحلال»، وقد وردت التلبية في دعاء قيام الليل في استفتاح الصلاة الذي أَوَّلُه: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (رواه مسلم).
المشاعر العظيمة
وهذه المشاعر العظيمة تتضاعف حين يستحضر العبد كيف ورد لفظ التلبية في تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع مرات؟ ولعلك تعرف مِن هنا فائدة لزوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه التلبية مع كونه لم ينكر على الناس غيرها مِن تلبية التوحيد دون تلبية المشركين المتناقضة السخيفة؛ وذلك أنهم كانوا يضيفون إليها: «إلا شريكًا هو لك، ملكته وما ملك!».
لبيك لا شريك لك لبيك
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أول البعثة ينهاهم عن ذلك؛ فيقول بعد قولهم: «لبيك لا شريك لك لبيك»: «قد، قد» أي: اكتفوا بها، لا تزيدوا الباطل المتناقض؛ كيف يكون شريكًا لله وهو مملوك وما ملك؛ فأي شيء يملكه إذًا؟! فتلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تضمنت تكرار الغاية مِن هذا الذِّكر، وهو الإجابة أربع مرات، وكل لفظ بالتلبية؛ فهي تؤكد في قلب العبد قضية الاستجابة لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، واستشعار أنه مطلوب للحضور في بيت الله ضيفًا، وأنه يجيب ربه إلى هذه الدعوة كما هو يجيبه لغيرها في حياته كلها.
مَعَانٍ حسنة
والتلبية الأخرى وإن تضمنت مَعَاني حسنة مثل: (لبيك وسعديك) أي: مساعدة لأمرك بعد مساعدة، بمعنى أن الكون في أمر الله وطاعته وخدمته، وليست بمعنى المعاونة التي في حق البشر، بل الإسعاد معناه: أنا في الطاعة ونفاذ الأمر والخدمة، وإن كان لفظ الخدمة لم يَرِد في الكتاب والسُنَّة؛ فنختار لفظ العبادة والطاعة والتسليم والانقياد، ولكن المقصود مِن التلبية هو قضية الإجابة، وتكررها في تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤكد حقيقتها في القلب، ويجعلها طريقًا للحياة.
تلبية الأنبياء -عليهم السلام
ويتضاعف هذ الأمر في قلب المؤمن إذا استحضر أن الأنبياء -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- كانوا يُلَبُّون كذلك، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما مَرَّ بوادي الأزرق، فقال: «أَيُّ وَادٍ هَذَا؟» فَقَالُوا: هَذَا وَادِي الْأَزْرَقِ، قَالَ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ -وفي رواية: (مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي)- وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ بِالتَّلْبِيَةِ» (أي صوت مرتفع)، ثُمَّ أَتَى عَلَى ثَنِيَّةِ هَرْشَى، فَقَالَ: «أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ؟» قَالُوا: ثَنِيَّةُ هَرْشَى، قَالَ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ جَعْدَةٍ، عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ، خِطَامُ نَاقَتِهِ خُلْبَةٌ (أي: ليف) وَهُوَ يُلَبِّي» (رواه مسلم)؛ فهم في غاية التواضع يستجيبون لأمر الله -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فالمؤمن يستشعر أنه واحد مِن جمع غفير، مستجيبين لأمر الله، أولهم أنبياء الله -تعالى-، محمد وإبراهيم وموسى ويونس، ويحج عيسى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إذا نزل إلى الأرض قبْل آخر الزمان، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا} (رواه مسلم).
حب الأنبياء والسير على طريقهم
فكل هذه الأماكن بيْن المدينة ومكة مرَّ بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، وتذكُّر مرور الأنبياء بهذه الأماكن بعينها التي يمر بها الحجاج بيْن المدينة ومكة، وينادون بالتلبية نفسها التي يلبون بها، توقظ في القلب حب الأنبياء والسير على طريقهم؛ طريق العبودية والتوحيد، والحب والاستجابة لأمر الله -تعالى-، ولو كره المشركون، ولو خالف الكافرون، ولو حاولوا صَرْفَنا عن طريقنا فلن ننصرف أبدًا -بإذن الله.
لفظ الألوهية
وأول ما ينادي العبد ربه بالتلبية بلفظ الألوهية: «لَبَّيْكَ الَّلهُمَّ لَبَّيْكَ»؛ فهو تأكيد على قضيته الأولى في الحياة: عبادة الله وحده لا شريك له، بل هي قضية الكائنات كلها «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» (الإسراء:44)، وقال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا. لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا» (مريم:93-95)، ثم يكرر لفظ الإجابة: «لَبَّيْكَ»، وينفي الشرك عن الله في إلهيته: «لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ»؛ فأفعالي كلها أتوجه بها إلى الله، لا أشرك فيها أحدًا غيره، وأتبرأ مِن الشرك ومِن المشركين، وأنفي الشرك وأُبْطِله، لا كالذين يصححون مذاهب المشركين وأديانهم ويسوون بيْن الإسلام وغيره مِن ملل الكفر، فيقدحون في أصل الدين وشهادة: «أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله»، قال -تعالى-: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (آل عمران:19).
هدم الشرك وإبطاله
إن دين الإسلام لا يقوم في قلب العبد إلا بهدم الشرك وإبطاله، في الألوهية والربوبية والأسماء والصفات، وكذلك يسعى المسلم في العالم لهدم الشرك وإبطال عبادة غير الله، ونشر نور التوحيد؛ لتعرف البشرية أعظم نعمة أنعم الله بها على خلقه.
أفضل الدعاء
ثم يدعو الملبي ربه بأفضل الدعاء: «الحمد»، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَفْضَلُ الذِّكْرِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ» (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، فيقول العبد المُلَبِّي: «إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ» فيجمع المُلَبِّي بيْن أفضل الذكر وأفضل الدعاء، وهو يستحضر في ذلك استحقاق الرب كل أنواع الكمال، والثناء عليه بها، والتعظيم بالقلب واللسان، ربه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو وحده المستحق لهذا الحمد، وهذا يتضمن حمده على جماله وجلاله، وكمال أسمائه وصفاته وأفعاله، كما تضمن حمده على إنعامه وإحسانه، ويؤكد بالعطف بالنعمة، فذكر النعمة له -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بعد الحمد -وقد دخلت فيه- عطفٌ للخاص على العام؛ تأكيدًا لشهود العبد المؤمن لذلك، فالنعم مِن الله وحده، وإذا استحضر العبد أثناء التلبية نعم الله عليه في دينه ودنياه لكان ذلك مِن أسباب ذوبان قلبه حبًّا وشوقًا وخضوعًا وذلًا لربه -سُبْحَانَهُ- الذي لا تُحصَى نعمه ولا تُعَدُّ، والله -عَزَّ وَجَلَّ- يرضى منا بالقليل مِن الشكر، قال النبي -صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ، فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا» (رواه مسلم)، وذكر كلمة «لك» أي: هو منفرد بذلك، أنت يا رب منفرد بالحمد والنعمة، وكذا بالملك.
الجمع بيْن الحمد والملك مع التوحيد
والجمع بيْن الحمد والملك مع التوحيد متكرر في أدعية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، «لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ، لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»، وهو أفضل الدعاء يوم عرفة؛ فأفضل ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - والنبيون كما ورد في الحديث؛ ولأن كمال الملك مع كمال الحمد كمال إضافي، فوق أن كلًّا منهما كمال في حد ذاته.
ثم يكرر العبد: «لَا شَرِيكَ لَكَ»، وهذا نفي للشرك في الربوبية والأسماء والصفات والأفعال والملك والنعمة، وكلها مِن معاني الربوبية (أفعاله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى)، بعد أن نفى الشرك في الألوهية الذي ذكره في أول التلبية لينفي الشرك في أفعال العبد أن يتوجه بها لغير الله.
فالتلبية مِن الأدعية العظيمة التي تُعرِّف العبد حقيقة السلعة التي معه؛ روحه ونفسه المؤمنة: هل يَضِنُّ بها أم يبيعها بالثمن البخس؟ وشعور العبد بأن الله أراده يجعله يكاد يذوب حبًّا وشوقًا لله وانقيادًا وذلًا، يجعله مجيبًا على الفاقة، أي مجيبًا لأمره -سبحانه-، مستشعرًا شدة فقره وفاقته إلى الله في هذه الإجابة، أي: يحقق «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» بالإجابة و»إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» بالفاقة والفقر إلى الله إلهًا معبودًا محبوبًا؛ فأي مِنَّةٍ أَجَلّ مِن هذا؟! وهل نستحق كل هذا العطاء؟ إنما هو محض الجود والكرم والمَنِّ.
لاتوجد تعليقات