رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. محمد احمد لوح 10 ديسمبر، 2017 0 تعليق

التقليد الأعمى من أسباب عدم قبول الحق

إن الناظر إلى دور العلماء في تقديم المنهج الحق وتقدير واقع الأمة وإقامة بنائه الفكري والاجتماعي، يجد أن البون شاسع بين ما نحن فيه وما يجب أن نكون عليه؛ ذلك لأن المنهج العلمي الذي استنبطه علماؤنا من الوحي السماوي تم على أساسه تقسيم قضاياه إلى قسمين، الأول: خاص بمسائل العلم الجلية المعلومة من الدين بالضرورة؛ فمن لم يقبلها بعد البلوغ وصف بأنه رافض للحق، والثاني: خاص بالمسائل الدقيقة التي قد يعذر المكلف بجهله، وهذا المنهج الذي تعاملت به طبقات الأمة كان رحمة وهدى وخيرًا للبشرية؛ حيث لم يحكموا على المخطئين بحكم واحد ولم يزجوا بهم  في هوة الضلال، بل حكموا على كل بما يستحق؛ فمن وقع في الخطأ لجهله وعدم قيام الحجة عليه فهو معذور، ومن أبى وعاند بعد قيام الحجة وصف بالضلال ورفض الحق، وحكم عليه بحسب ذلك، ورفض الحق يكون بأسباب كثيرة منها التقليد الأعمى.

     التقليد منه ما هو حق وواجب، ومنه ما هو مذموم مكروه؛ فأما التقليد الواجب فهـو تقليد الرسول صلى الله عليه وسلم بحسن اتباعه، والاقتداء به، وكذلك اتبـاع أهل الإجماع من علماء الأمة الأفاضل؛ فهذا النوع من التقليد ليس مذمومًا، أما التقليد المذموم الذي ذم الله أصحابه، وشبههم بالبهائم؛ فذلك التقليد الذي يجعل صاحبه بلا كيان ولا رؤية؛ فيقبل قول غـيره مـن العامة بلا دليل ولا برهان، قال الله -تعالى- في أرباب هذا النوع: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلـون شـيئًا ولا يهتدون}(البقرة: 170 - 171)؛ فهؤلاء المقلدون لا يعلمون شيئا، ولا يفقهون سوى أنهم يسيرون على طريق آبائهم، دون أن يعرفوا هل هو طريق حق أو باطل؛ فمقياس الحق عندهم ما كان عليه الآباء، والباطل ما لم يكونوا عليه، فهم يتبعون الناعق دون علم أو روية؛ فـألغوا بذلك شخصياتهم، وجمدوا عقولهم، ولم يستعملوها فيما أمر الله به من النظر والتـدبر والتفكر، ورضوا بأن يصافوا البهائم، العجماء، فيهينوا أنفسهم، ويذلوها.

     ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه»، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: «فمن»؟ والقذة: ريشة السهم، وهي ما يشبه رصاصة البندقية (اليوم)؛ فكل واحدة تكون مساوية للأخرى؛ فالمعنى أنكم تكونون مثلهم بأفعالهم سواء بسواء.

التعصب الذميم لآراء الأئمة وأقوالهم

     والتقليد الأعمى من المنكرات التي تجب محاربتها وزجر الناس -ولاسيما طلاب العلم- عنها؛ حيث إن التقليد دفع بعضهم في العصور المتأخرة إلى التعصب الذميم البـشع لآراء الأئمة وأقوالهم ، وتقديمها في أحيان كثيرة على النصوص الصريحة المخالفة لهذه الآراء والأقوال، رغم أن الأئمة كانوا ينهون من أخذ عنهم من مغبة التقليـد دون معرفة الدليل الشرعي الذي بنوا عليه قولهم، وأن الأئمة أنفسهم كانوا يرجعون عن رأيهم إذا تبين لهم الدليل.

      قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: «يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء؛ أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر»!. وقال الإمام الشافعي: «أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم  لم يكن له أن يدعها لقول أحد، وقال أيضا: «إذا صح الحـديث فاضربوا بقولي عرض الحائط». وقال الإمام مالك: «ما منا إلا راد ومردود عليه ، إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم . وقال: ما كان من كلامي موافق للكتاب والسنة فخذوا به ، وما لم يوافق فاتركوه».  قال الشاطبي -رحمه الله-: «ولقد زل بسبب الإعراض عن الدليل والاعتمـاد علـى الرجال أقوام خرجوا بسبب ذلك عن جادة الصواب، واتبعوا أهواءهم بغير علم، فضلوا عن سواء السبيل».

سيطرة العادات والتقاليد

     ثالثا: سيطرة العادات والتقاليد الموروثة: كان أهل الجاهلية يعظمون الآباء والأجداد، ويتغنون بمفـاخـر القـبيلة؛ فهـم أكثر الناس عددا، وأقواهم شكيمة، وأعلاهم نسبا؛ فـالكبر ديـدنـهــم، وعظمة الدنيا تملأ قلوبهم، من كثرة الأموال والبنين إلى الخيل المسومة، وقطعـان الإبل والمواشي. ومع الزمن أصبحت تلك التـقـالـيـد دينـا، فـلا يجـوز المساس بها، ولا يصح الخروج عما تعارف عليه أبناء القبيلة الواحدة.

     كاد الفرد أن يلغي عقله أمام مطالب العادات الموروثـة، وعنـدما أطـلــت تـبـاشـيـر الـدين الجـديـد اصـطـدم الدين الحنيف بهـذه التقاليـد؛ ولذلك حذر الإسلام من التعلق بالعادات الضالة وندد بفعل أصحابها ، وحذر مـن الوقوع في متاهاتها بعد نعمة الإسلام، ومن هذه العادات المذمومة -مثلا- الفخـر بالأحساب: قال صلى الله عليه وسلم : «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحـساب، والطعـن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة».

      دل الحديث على بطلان ما كان عليه أهل الجاهلية من الخصال الرديئة ، وورثتـهم اليوم طائفة من هذه الأمة تـجـاوزوا فـيـهـا أسلافهم؛ فتـراهم يفتخـرون بمزايا آبائهم؛ فهذا يقول: كان جدي الـشـيـخ الفـلاني، وهذا يقول : جدي العالم الرباني، أو البطل أو المحارب، إلى غير ذلك.

     ويذكر ابن تيمية -رحمه الله-: «أن تـعـلـيـق الـشـرف في الدين بمجرد النسب هو حكم من أحكام الجاهلية الذين اتبعتهم عليه بعض الفرق مـن أهل الجهل، ولهذا ليس في كتاب الله آية واحدة يمدح فيها أحدًا بنـسبه ولا يـذم أحــدًا بنسبه ، وإنما يمدح بالإيمان والتقوى، ويذم بالكفر والفسوق والعصيان»، ثم استشهد بالحديث السابق.

تعظيم الأسلاف والأكابر

     لقد غلا القوم في تعظيم الأسلاف والأكابر حتى حجبهم هذا التعظيم عـن قبـول الدين الحق ، كما حال هذا التقليد دون إسلام أبى طالب، رغم اعتقاده بـصـدق ابن أخيه صلى الله عليه وسلم وما كان عليه من هدى.

     عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: «لما حـضـرت أبــا طالب الوفاة، جـاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جـهــل، فقال: ياعم ؛ قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله. فقالا له: أترغب عـن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فأعادا؛ فكان آخـر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول : لا إله إلا الله».

العصبية والتمسك بتراث الأسرة والعشيرة

     والعصبية والتمسك بتراث الأسرة والعشيرة هو الذي جعل أبـا جهـل يقـول: «تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطـوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نـبي يأتيـه الوحي من السماء؛ فمتى ندرك مثل هذا؟ ، والله لا نؤمن به أبدًا ولا نصدقه».

لقد رفض الإقرار بالحق، وبالقرآن الذي استمع إليه خلسة مع نفر من أصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوار الكعبة، وتأثروا بما سمعـوا، لكنـها التقاليد والعادات والحفاظ على موروثاتها.

     إن المتتبع لأحداث التاريخ وتراجم الماضين ليقف حائراً مدهوشًا لما يرى من وقـائع مذهلة أقدمت عليها طـوائـف من الناس، فأضفت قدسية وتعظيمًا علـى الآبـاء والشيوخ والأجداد، وأطلقت عليهم من الصفات والنعوت ما يطلق عـادة علـى الآلهة، ولتقاليد الأسلاف سلطان قـــوي يـخـلــب ألبـاب البـشر، وسلطان الأجداد والشيوخ يجب أن يقف عند حد معين لا يتجاوزه، وإلا كان وبالا ومصيبة على البشرية، لا يعرف مداها إلا الله .

     يقول الإمام الشاطبي: من أســبـــاب الخلاف التصميم علـى اتبـاع العوائد وإن فسدت أو كانت مخالفة للحق ، وهو اتباع ما كان عليـه الآبـــاء والأشــيـاخ وأشباه ذلك، وهو التقليد المذموم؛ فإن الله ذم ذلـك في كتابـه بقوله: {إنا وجدنا آباءنا على أمة}(الزخرف: 22-23)، وقوله: {قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون}(الشعراء: 73)؛ فنبههم على وجه الدليل الواضح، فاستمسكوا بمجرد التقليد؛ فقالوا: {بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون}(الشعراء: 73-74).

     وللاستفادة مما كان عليه الآباء ينبغي أن يخضع ذلك للكتـاب والـسنة، للعلـم والهدى؛ لأنه إذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال فالحق أيضا لا يعرف دون وسائطه، بل بهم يتوصل إليه، وهم الأدلاء على طريقه.

     إن الخطورة تكمن في تحكيم العادات في أمر الناس ولو خالفت الكتاب والسنة، وما من عادة سيئة أو بدعة محدثة إلا وتميت سنة نيرة؛ ولذلك حرر الإسلام العقول من الجمود على الماضي أو العادات الدارجة ذات الإلف في النفوس، وسد كل الطـرق المؤدية إلى تشويه صفاء التوحيد والعقيدة.

رابعا: العجب:

ومن الأمراض السريعة الفتاكة: العجب، وما ينتج عنه من الغرور والكبر.

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك