التغريب والعلمنة وأثرهما على المجتمعات المسلمة (7) حكم التغريب في الشريعة الإسلامية
عقد مركز ابن خلدون للدراسات الإستراتيجية المسابقة البحثية الأولى، وكانت تحت عنوان: (التغريب والعلمنة وأثرهما على المجتمعات المسلمة)، وقد فاز بالمركز الأول البحث المقدم من الباحث رامي عيد مكي بحبح، من جمهورية مصر العربية، وتعميمًا للنفع تنشر مجلة الفرقان هذا البحث على حلقات، واليوم نتكلم عن حكم التغريب في الشريعة الإسلامية
هذا المطلب يتناول حكم التغريب في الشريعة, وذلك عن طريق إيراد نصوص من القرآن والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين المتعلقة بالتشبه باليهود والنصارى وذلك بإيجاز, ثم نختم بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية، المتعلق بذلك الذي أورده في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم), وذلك فيما يلي:
أولا: حكم التغريب في القرآن
قال الله -تعالى-: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (البقرة:120)، وقال -تعالى-: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}(النساء:115)، {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} أي ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول؛ فصار في شق والشرع في شق, أي يكون في جانب بإحساسه وولائه, والرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون في جانب آخر بإيمانهم وولائهم لله -تعالى-, وذلك بعد أن يتبين له الحق, ومن يفعل ذلك؛ فإنه يكون قد خرج من ولاية المؤمنين ونصرتهم، إلى ولاية من يتولونه ونصرتهم, أي أنهم يكونون قد انضموا إلى أعداء الله -تعالى.
وقال -تعالى-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة:57)، وقال -تعالى-: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد:16)، أي لا يكونوا مثلهم, وهذا دليل على النهي المطلق في مشابهتهم.
ثانياً: حكم التغريب من السنة الشريفة
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتتبعن سَنَن من كان قبلكم، شبراً شبراً، وذراعاً ذراعاً، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟» (صحيح البخاري:7320)، وفي رواية «شبراً بشبر وذراعاً بذراع»(صحيح البخاري:7319).
وهذا الوصف العجيب في بيان شدة المتابعة حتى لو كان فيما يخالف العقل الصحيح والفطرة السليمة، نجده منطبقاً على المتغربين؛ فعندهم تتبع لحال الغرب في كل شيء، في الفكر والثقافة, وفي الفن والأدب, وفي طريقة الحياة والسلوك وفي القيم, إلى غير ذلك.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما-, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى» (صحيح البخاري:5892)، و«خالفوا المشركين» هذا أمر بمخالفة المشركين مطلقاً, وهذا دليل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» «صحيح البخاري:5899»، أمر بمخالفتهم؛ وذلك يقضي أن يكون جنس مخالفتهم مقصود للشارع؛ لأنه إذا كان الأمر بجنس المخالفة حصل المقصود، وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب؛ أكلة السحر»(صحيح مسلم:1096).
وعن جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- أنه قال: «اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع الناس تكبيره؛ فالتفت إلينا فرآنا قياماً؛ فأشار إلينا فقعدنا, فصلينا بصلاته قعوداً؛ فلما سلم قال: «إن كدتم آنفاً تفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم, إن صلى قائماً فصلوا قياماً، وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً»(صحيح مسلم:413).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من تشبه بقوم فهو منهم» (سنن أبي داود:4031)، وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم, وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم, وبهذا الحديث احتج غير واحد من العلماء على كراهة أشياء من زِيِّ المسلمين, قال محمد بن أبي حرب: سئل أحمد عن نعل سندي يخرج فيه؟ فكرهه للرجل والمرأة, وقال هو من زي العجم.
خالفوا اليهود
وعن يعلى بن شداد بن أوس عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خالفوا اليهود؛ فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم»(سنن أبي داود:652)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون»(سنن أبي داود:2353)، وفي هذا التعليل دليل على أن قوام الدين الحنيف على مخالفة الأعداء من أهل الكتاب، وأن في موافقتهم تلفاً للدين.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما-, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال: قال عمر: «إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما؛ فإن لم يكن إلا ثوب واحد؛ فليتزر به ولا يشتمل اشتمال اليهود»(سنن أبي داود:635)، وإن إضافة المنهي عنه إلى اليهود، دليل على أن لهذه الإضافة تأثيرا في النهي.
وعن ابن عباسرضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللحد لنا والشق لغيرنا»(الترمذي:1045)، وقال: هَذَا حَدِيثٌ غريب، وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «صوموا يوم عاشوراء, وخالفوا اليهود, وصوموا قبله يوماً أو بعده يوماً».
ثالثًا: أقوال الصحابة والتابعين
قال الإمام أحمد في المسند: حدثنا يزيد, حدثنا عاصم، عن أبي عثمان النهدي, عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «.. وذروا التنعم وزي العجم»، وفي موضع آخر, عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «ونهى عن زي العجم وزي المشركين»، وعن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما-, أنه قال : «من بنى بأرض المشركين, وصنع نيروزهم, ومهرجانهم, وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم يوم القيامة»، قال أحمد: «يكره أن تكون العمامة تحت الحنك كراهية شديدة» وقال : «إنما يتعمم بمثل ذلك اليهود والنصارى والمجوس».
التشبه باليهود والنصارى
إن الصراط المستقيم هو أمور باطنة في القلب من اعتقادات وإرادات وغير ذلك, وأمور ظاهرة من أقوال وأفعال، قد تكون عبادات, وقد تكون أيضاً عادات في الطعام، واللباس، والنكاح، والمسكن، والاجتماع، والافتراق، والسفر، والإقامة، والركوب وغير ذلك، وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ارتباط ومناسبة؛ فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أموراً ظاهرة, وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعوراً وأحوالاً, وقد بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالحكمة التي هي سنته, وهي الشرعة والمنهاج الذي شرعه له؛ فكان من الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين؛ فأمر بمخالفتهم في الهدي الظاهر، وهو ما يظهر من سلوك الإنسان وشكله, أو يحسه من حوله من أنماط السلوك والتصرفات القولية والعملية، كالأكل والشرب, والكلام، واللباس، والتعامل مع الآخرين, وممارسة الحياة العملية والتعبير عنها، وإن لم يظهر لكثير من الخلق؛ فإن في ذلك مفسدة لأمور:
المشاركة في الهدي الظاهر
منها: أن المشاركة في الهدي الظاهر يورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين، يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس؛ فإن اللابس لثياب أهل العلم يجد في نفسه نوع انضمام إليهم, واللابس لثياب الجند المقاتلة مثلاً يجد من نفسه نوع انضمام إليهم وتخلقا بأخلاقهم.
المخالفة في الهدي الظاهر
ومنها: أن المخالفة في الهدي الظاهر توجب مباينة ومفارقة وتوجب الانقطاع عن موجبات الضلال وأسبابه والانعطاف عن أهل الهدى والرضوان, وتحقيق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين, وكلما كان القلب أتم حياة وأعرف بالإسلام ظاهراً وباطناً، كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى ظاهراً وباطناً أتم, وبعده عن أخلاقهم أشد.
الاختلاط الظاهر
ومنها: أن مشاركتهم في الهدي الظاهر، توجب الاختلاط الظاهر, حتى يرتفع التميز ظاهراً بين المهتدين وبين المغضوب عليهم والضالين.
من ثمار المخالفة
إن المخالفة في الظاهر أعون على مقاطعة الكافرين ومباينتهم, وإن كانت مشاركتهم إن لم تكن ذريعة أو سبباً قريباً أو بعيداً إلى نوع من الموالاة؛ فليس فيها مصلحة المقاطعة والمباينة, مع أنها تدعو إلى نوع من المواصلة.
لاتوجد تعليقات