التغريب والعلمنة وأثرهما على المجتمعات المسلمة (10) الابتعاث وأثره في تغريب المجتمعات المسلمة
البحث الفائز بالمركز الأول في المسابقة البحثية الأولى للمركز
نتناول الابتعاث وأثره في تغريب المجتمعات المسلمة, عن طريق بيان تعريفه وتاريخه, ثم بيان أثره في تغريب المجتمعات المسلمة، ثم التعريج سريعاً على نماذج من المبتعثين وأثرهم في تغريب المجتمعات المسلمة؛ وذلك فيما يلي:
أولاً: تعريف الابتعاث
تعددت تعريفات البعثات؛ فمنها: أنها إرسال مجموعة من العلماء لدراسة مسائل علمية على الأرض، أو لمداولة علماء آخرين ومناقشتهم في المسائل العلمية، ومنها: هي هيئة ترسل في عمل معين مؤقت منها بعثة سياسية، وبعثة دراسية، أما المقصود هنا البعثات العلمية التي تعرف بأنها هي إرسال الطلاب من موطنهم الأصلي إلى موطن خارجي، من أجل الدراسة والبحث لفترة محددة، ثم العودة إلى موطنهم الأصلي مرة أخرى.
ثانياً: تاريخ الابتعاث
بدأ الابتعاث في بلاد الإسلام من مصر؛ حيث إنه في أواخر الخلافة العثمانية قام (محمد علي) - حاكم مصر- بإرسال بعثة صغيرة إلى إيطاليا لتعلم الصناعات الحربية؛ وذلك بإيعازٍ من قناصل البلاد الأوروبية التي كانت تستهدف زيادة قوة الجيش المصري، ليكون نِدّاً للجيش العثماني؛ فيضعف كلاهما الآخر، ولما رأى (أدم فرانسوا جومار) – وهو مهندس فرنسي بارع شديد الاهتمام بما يخص مصر وله منزلة عند نابليون – نجاح القناصل في إغراء محمد على بإرسال البعثات إلى أوروبا ما بين سنة 1811م إلى سنة 1819م، أسرع (جومار) يحث القناصل في مصر على إغراء (محمد على) بإرسال بعثات كبيرة إلى فرنسا, لتكون تحت إشرافه، ولينفذ مشروع (نابليون) الذي بيته لخليفته (كليبر) في رسالته، وكان هذا المشروع بتخطيط من أَحَدِ المستشرقين.
يقوم هذا المشروع على جمع 500 أو 600 من المصريين، وإرسالهم إلى فرنسا، وهناك يمكثون مدة سنة أو سنتين، يشاهدون فيها عظمة الأمة الفرنسية، ويعتادون على اللغة الفرنسية والتقاليد الغربية؛ فإن عادوا إلى مصر كان لفرنسا منهم حزب يضم إليهم غيرهم، وبالفعل أغرى القناصل (محمد علي) بإرسال هذه البعثات، وبالفعل أرسلت بعثة كبيرة إلى فرنسا في يوليو 1826م، وتتابعت البعثات إلى سنة 1847م.
إن مشروع الابتعاث الذي أحدثه (محمد علي) لم يحدث من قبل في تاريخ الأمة الإسلامية؛ فالذي كان معهودا هو إرسال شخص لدراسة ما عند الأمم الأخرى، أو أن يتحمس أحد الناس لطلب ما عند هذه الأمم من علوم فيذهب إليهم، أو أن يحضر أحد الماهرين من أبناء تلك الأمم ليعلم بعض أبناء المسلمين مثل هذه العلوم، أو نقل كتبهم ودراستها دراسة ذاتية.
أما الابتعاث بهذه الطريقة؛ فما اشتهر إلا مع هذه التجربة التي قام بها محمد علي، وقد سار على هذه الطريقة فيما بعد مركز الخلافة، واستمر هذا الأمر بعد سقوط الخلافة والوقوع في فخ الاستعمار، واستمر أيضاً مع ولادة دول ما بعد الاستعمار، وحتى وقتنا الحاضر، وبعد مائة سنة تبعت بلاد العالم الإسلامي مصر في ابتعاث أبنائها للدراسة في أوروبا.
ثالثاً: آثار الابتعاث التغريبية
الآثار العقدية, ومنها:
إضعاف الانتماء الديني
- إضعاف الانتماء الديني، الذي يُعد من أخطر آثار البعثات العلمية التغريبية؛ وذلك ناتج عن طول الإقامة في بلد الدراسة مع الإعجاب بها؛ فيتولد لدى المبتعث احتقار شعائر دينه والتصغير من شأنها, مع الرغبة في الإقامة الدائمة في تلك البلاد؛ حيث إنه مع مرور الأيام وطول سني الدراسة تتوثق عرى الارتباط بين هؤلاء الدارسين وبين أنماط الحياة في تلك المجتمعات؛ فيصبحون بعد ذلك جزءاً منها, ومن ثم يتعذر عليهم أن ينفصلوا عنها بسهولة, وإن تركوها بأجسادهم؛ فإن عقولهم وقلوبهم فيها وألسنتهم وأعمالهم توضح ذلك.
المفاهيم الفكرية الباطلة
- التشبع بالمفاهيم الفكرية الباطلة, لاسيما فكرة العلاقة بين الدين والحياة السائدة في الغرب والقائمة على فصل الدين عن الحياة؛ فتجد بعض المستغربين مؤدياً لبعض الشعائر الظاهرة، كالصلاة، والصيام، والحج, لكنه يرفض حكم الشريعة في المعاملات الاقتصادية والقضايا السياسية والاجتماعية, بل ربما قضى عمره كله في الدفاع عن فكرته تلك، التي تشبع بها من الغرب، وأصبح يدافع عنها. إنهم يديرون ظهورهم لمصادر الثقافة الإسلامية المتمثلة في القرآن والسنة، والتاريخ الإسلامي، والعلوم الإسلامية, ثم يولون وجوههم نحو المصادر الغربية يستقون منها علومهم وأفكارهم.
التأثر بالمستشرقين
- التأثر بالمستشرقين وخدمة الاستشراق؛ فمن أساليب الاستشراق الحض على ابتعاث الطلاب المسلمين إلى الجامعات الغربية لاستكمال الدراسات العليا في الآداب والشريعة واللغة العربية على أيدي المستشرقين، ولم يكتف هؤلاء المستشرقون باحتكار تدريس الإسلام في جامعاتهم، وإنما أشرفوا بدهاء ومكر على تخريج أعداد كبيرة من العرب والمسلمين الذين أخذوا العلم عنهم، وحملوا الشهادات العلمية العليا، ثم عادوا إلى أوطانهم صورًا من هؤلاء المستشرقين، إلا أنهم أكثر خطورة منهم؛ ذلك أن المستشرق معروف هدفه في تغريب المسلمين وتضليلهم، أما العربي المسلم من تلاميذ هؤلاء المستشرقين فإنه قادر على خداع بني قومه، ومن ثم ينشر سمومه وبضاعته دون رقابة صارمة وواعية؛ فهؤلاء الطلبة يحملون الراية نيابة عن أساتذتهم المستشرقين؛ من حيث يدرون أو لا يدرون.
- التشبه بالغرب وتقليدهم في اللباس والهيئة؛ فنجد من المبتعثين المسلمين من يثقب أذنه وأنفه، ويلبس الأساور في الأيدي، والقلائد في الأعناق، وأصبح بعضهم لا يربطه بدينه وبلاده إلا الاسم والجنسية.
الآثار الأخلاقية
الانحراف الخلقي من اختلاط وتبرج وإقامة علاقات محرمة، وإدمان المخدرات؛ فبعض المبتعثين بمجرد نزولهم إلى أوروبا وفإنهم يطوفون هنا وهناك ينظرون إلى واجهات المحال التجارية, وإذا ببعضهم يصل وبسرعة إلى إقامة علاقات ببعض الفتيات, بل يصل الأمر إلى التخلي عن الفروض الدينية.
الآثار السياسية
التأثر بالأفكار الثورية، والقناعة بالنظام الغربي في الحكم والإدارة.
الآثار الاجتماعية
تغيير المفاهيم والقيم الاجتماعية المتعلقة بالحجاب والاختلاط بين الجنسين والعلاقة بينهما والأسرة.
رابعاً: التغريب الفكري والاجتماعي
إن فكرة البعثات العلمية إنما خرجت من رحم المحتل وبتخطيط ماكر منه, قَصَدَ منها أن يَصْنَعَ نَشْءَ الإسلام تحت عينه، ويربيهم في كنفه؛ فيكونوا أدوات لتنفيذ أهدافه؛ فرغم استمرار ابتعاث الطلبة والباحثين المسلمين إلى البلاد الغربية على مدار عشرات السنوات، إلا أن العالم الإسلامي لم ينجح في الاستقلال المعرفي بعد كل هذه السنين من الابتعاث, بل على العكس من ذلك أصبح الابتعاث أحد أهم منافذ التغريب الفكري والاجتماعي للأمة الإسلامية, وأغلب رموز التغريب الفكري من المبتعثين، تحولوا من نفع الأمة إلى تغريبها.
خطورة الابتعاث
يمكن تلخيص خطورة الابتعاث ودوره في تغريب شباب المسلمين فيما يلي:
إن ظاهرة الابتعاث للخارج بمحتواها الثقافي، ومؤثراتها السلوكية والفكرية على المبتعثين تحمل في طياتها جانباً سلبياً كبيراً، يتضح من الآثار التي قد تنتج عن مراحل التكيف التي يمر بها المبتعث خلال حياته في بلاد الغرب؛ فمرحلة الانبهار بالحضارة الغربية، قد تترك آثاراً عميقة في فكره وسلوكه, وما يقود إليه من إعجاب, ومن ثم استعداد للاندماج, والاقتداء بما تقدمه هذه الحضارة، من أفكار وقيم وتوجهات وأنماط سلوك, ومرحلة الصدمة الثقافية، قد تؤدي إلى فقدان الطالب اتزانه، وثقته بنفسه، وبالقيم التي يحملها، وتدعم في نفسيته الشعور بالانهزامية الفكرية والسلوكية؛ فيبدأ بالتقليد الفكري والسلوكي والاندماج الكلي في المجتمع الغربي, وهذه تُعد نتيجة خطيرة؛ حيث تؤدي إلى الهيمنة الثقافية الغربية والربط بين التقدم الحضاري والنموذج الغربي, وهذا ابتعاد عن الأصول والعقيدة الإسلامية, وفقدان للهوية الحضارية التي تميزت بها الأمة الإسلامية على مر العصور, إن هؤلاء المبتعثين تم مسخهم في الغرب, ثم عادوا إلى بلادهم، وقبضوا على مقاليد الفكر والثقافة ووجهوها نحو التغريب؛ فنشأت أجيال من الطلاب المسلمين مقطوعة الصلة بدينهم, مفتونة بالغرب وتياراته الثقافية المختلفة التي تتفق في شيء واحد هو تحللها
لاتوجد تعليقات