رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر المحلي 14 أكتوبر، 2019 0 تعليق

التغريب والعلمنة وأثرهما على المجتمعات المسلمة (3) تاريخ التغريب وأسبابه

 

مركز ابن خلدون للدراسات الإستراتيجية

البحث الفائز بالمركز الأول في المسابقة البحثية الأولى للمركز

 

عقد مركز ابن خلدون للدراسات الاستراتيجية المسابقة البحثية الأولى، وكانت تحت عنوان: (التغريب والعلمنة وأثرهما على المجتمعات المسلمة)، وقد فاز هذا البحث بالمركز الأول للباحث رامي عيد مكي بحبح من جمهورية مصر العربية، وتعميمًا للنفع تنشر مجلة الفرقان هذا البحث على حلقات، واليوم نتكلم عن تاريخ التغريب. بتتبع التاريخ الإسلامي الحديث، ويمكن بيان تاريخ التغريب عبر مراحل عدة وهي:

مرحلة الهزيمة الغربية

     وهي المرحلة الأولى التي بدأت بارتداد الحملات الصليبية مهزومة بعد حطين، وفَتْحِ العثمانيين عاصمة الدولة البيزنطية ومقر كنيستهم واتخاذها عاصمة لهم، وتغيير اسمها إلى (إسلامبول) أي دار الإسلام، كما أن جيوش العثمانيين قد وصلت إلى وسط أوروبا وهددت فيينا، في ذلك الوقت أيقن الغرب أن الغزو العسكري للبلاد الإسلامية يُعد مشروعًا فاشلاً إن لم يسبقه غزو من نوع آخر يزلزل عوامل القوة الكامنة في الإسلام.

فشل المواجهة المباشرة

     ففكرة المواجهة المباشرة مع الحضارة الإسلامية التي اتخذتها أوروبا لمئات السنين قد باءت بالفشل؛ لذلك بدؤوا في التفكير باستحداث وسائل لإضعاف هذه الحضارة من داخلها، وهذه الفكرة قد راودت لويس التاسع أثناء أسره في المنصورة بعد هزيمة الحملة الفرنجية على مصر، فبعد إطلاق سراحه وعودته إلى أوروبا أنشأ جيشا من الباحثين «المستشرقين» للبحث في وسائل إضعاف الحضارة الإسلامية من داخلها فكرياً وثقافياً، ولقد توصلوا إلى أن سر عظمة الأمة الإسلامية، ومنبع قوتها الذي أخرجها من الظلمات إلى النور، وجعلها أمة واحدة متماسكة، هو عقيدة الإسلام.

مرحلة ضعف الدولة الإسلامية

     أما المرحلة الثانية فكانت بعد تولى العثمانيين قيادة الدولة الإسلامية التي امتدوا بها في ميدان الفتح ما شاءت لهم عبقريتهم الحربية وقوتهم العسكرية، ولكنهم جمدوا بها جموداً معيباً في بقية الميادين لاسيما في عصورها المتأخرة؛ فلم يكن لهم كبير اهتمام بالعلم، ومن ثم توقف المد العلمي الإسلامي، وحدث جمود في الاجتهاد الفقهي؛ فحدثت وقفة منكرة لم يُصَب الإسلام بأسوأ منها في تاريخه الطويل، ومن هذه الوقفة المنكرة بدأ الخطر الحقيقي على الإسلام؛ فليس أخطر على أي نظام من أن يقف تطوره ويتجمد في أمر من الأمور؛ لأنه بعد ذلك حتماً سيأخذ في الضمور والاضمحلال.

مع العلم أن العالم الإسلامي كان قبلها في حركة فاعلة في كل اتجاه، في ميدان الفتح، كما في ميدان العلم، وميدان الفقه وميدان الاقتصاد والاجتماع والفكر والسياسة وكل منحى من مناحي الحياة.

مرحلة بداية الاستعمار الغربي

     وبدأت المرحلة الثالثة حينما توقف المد الحضاري لدولة الإسلام؛ حيث كانت أوروبا قد نقلت العلوم الإسلامية وانتفعت بها، واستمدت منها أسس النهضة الحديثة كلها؛ فبدأ الفارق العلمي يتسع شيئاً فشيئاً بين أوروبا والعالم الإسلامي، فأوروبا تتطور والعالم الإسلامي كما هو جامد متوقف، لاسيما مع اكتشاف أوروبا لقوى البخار والكهرباء والبترول واللاسلكي في القرن التاسع عشر.

الهزيمة الحربية

ولم يستفق العالم الإسلامي إلا بالهزيمة الحربية النكراء التي أوقعها نابليون بجيوش المماليك شمالي القاهرة، لم تكن في الحقيقة هزيمة جيوش فحسب، ولكنها كانت هزيمة عهد من العهود الإسلامية، وهي هزيمة عميقة موغلة في النفوس.

هزة عنيفة

     لقد صدمت هذه الهزيمة نفوس المسلمين وهزتهم هزة عنيفة، مع أنها لم تكن أول هزيمة حربية في تاريخهم؛ فمن قبل ارتدت الجيوش الإسلامية أمام الحملات الصليبية، ولكن المسلمين في كل مرة كانوا يشعرون أنها هزيمة مؤقتة، ما تلبث أن تتحوّل إلى النصر، وكان المسلمون ينظرون إلى الجيوش الغازية على أنهم مجموعة من البرابرة المتأخرين الذين لا يعرفون علماً ولا ديناً، وكانوا ينددون تنديداً عميقاً بتقاليدهم المنحلة وأخلاقهم الفاسدة؛ حيث كانت العقيدة مستعلية في نفوسهم، ولكن الهزيمة هذه المرة غير أي هزيمة أخرى؛ فقبل الهزيمة الحربية كانت هناك هزيمة دينية بانحراف المسلمين عن دينهم وعقيدتهم الصحيحة، وكانت الهزيمة الحربية هذه المرة بآلات ومعدات عسكرية حديثة لم يرها المسلمون من قبل، فالمدافع والبنادق الحديثة تواجه السيوف والعصي والبنادق بالية، وكان يمكن للنفوس أن تصمد أمام الهزيمة ريثما تتجمع للانقضاض من جديد كما حدث قبل ذلك مرات عديدة، ولكن الرصيد الداخلي للعقيدة في تلك الفترة لم يكن من القوة؛ بحيث يصمد ويتجمع من جديد.

قانون نابليون

     ثم بعد الهزيمة الدينية والهزيمة الحربية جاءت هزيمة أخرى لم تمر على المسلمين من قبل ذلك في تاريخهم، ألا وهي خضوع جزء مهم من دولة الإسلام لقانون وضعي فرضه عليهم نابليون، لقد احتُلت قبل ذلك أراض إسلامية، بل أقيمت دويلات صليبية في بلاد الشام ولكنهم لم يجرؤوا قط في أي مرة أن يضعوا قانوناً يحكمون به المسلمين.

انهزام التطبيق الإسلامي

     ومن هنا بدأ انهزام التطبيق الإسلامي في الحياة، وبدأ انحسار الإسلام عن عالم الواقع، وبدأ التغريب يدب في نفوس المسلمين ولاسيما بعدما انبهروا بالعلوم الوافدة مع الفرنسيين وبالمطبعة التي جاؤوا بها، وانبهارهم بالتنظيمات التي أحدثوها، فقد انبهروا بما جاء من (الغرب) وكل ما ليس بمسلم، وكانت هذه هي الهزيمة الحقيقية.

تطوير الجيوش

     بعد انجلاء الاحتلال الفرنسي بدأ المسلمون يستشعرون الحاجة إلى تطوير جيوشهم وتسليحها ووضع لوائح تنظيمية لها في سبيل اللحاق بالتطور العسكري الغربي، الأمر الذي دفع المسلمين إلى اللجوء إلى أعدائهم الغربيين يطلبون منهم إيفاد مدربين للجيش!؛ فأنشأ (سليم الثالث) مدارس للحربية والبحرية، واستقدم لهم مهندسين من السويد وفرنسا والمجر وانجلترا، وفي مصر استقدم (محمد علي) مهندسين وأطباء أوربيين، وأرسل بعثات من طلبة الأزهر إلى أوروبا، وفي تونس قام (أحمد باشا باي) بإنشاء أول مدرسة للعلوم الحربية واستقدم لها أحد الإيطاليين لإدارتها، واستقدم لها مدرسين من انجلترا وفرنسا وإيطاليا، وفي إيران أدخلت (أسرة القاجار) النظم العسكرية الأوروبية بجيشها، وأنشئت كلية للعلوم والفنون على أساس غربي و، كان أساتذتها من الأوروبيين.

بداية تطبيق التغريب

     وكانت هذه بداية تطبيق التغريب التي تلاها بعد ذلك ما تلاها؛ فعندما أريد إصلاح الجهاز الإداري استُورِدَت الطرائق الغربية في تقسيم الولايات وتحديد مسؤوليات الولاة والقضاة وتنظيمها، وعندما أريد إصلاح الجهاز التعليمي بُنِيَت المدارس ووضعت المناهج على نمط يحاكي النمط الأوروبي ويقتبس منه، وعندما أريد إصلاح الحكم أَصَرَّ دعاة التغريب على أن تكون مجالس نيابية على الطريقة الغربية، وأن يوضع دستور مكتوب ذو قواعد وبنود على النمط الغربي.

مرحلة النفوذ الاستعماري

     وفي المرحلة الرابعة، استُعْمِرَ العالم الإسلامي من قبل أوروبا وروسيا، فإندونيسيا احتلها الهولنديون، وانجلترا احتلت الهند ومصر والسودان ودول عربية، وروسيا احتلت أواسط آسيا الإسلامية، واحتلت فرنسا أغلب الدول الإسلامية بأفريقيا والشام، واُحتُلت أغلب البلاد الإسلامية حتى عاصمة الخلافة كانت مهددة بروسيا التي تطمع في الوصول إلى البحر المتوسط بامتلاك البوسفور والدردنيل.

ضعف العالم الإسلامي

     في ظل الاستعمار كان العالم الإسلامي ضعيفاً واهنَ القوى؛ وذلك من عوامل الضعف التي كانت سارية فيه في ذلك الوقت، هذا فضلاً عن السموم التي أَشربها له هذا الاستعمار؛ وذلك بسيطرته على التعليم وإنشائه لمدارس الإرساليات الأجنبية التي نثرها في شتى بلاد العالم الإسلامي، ثم سيطر بمناهجه على المعاهد والجامعات الوطنية، واستقدم لها المستشرقين والمبشرين؛ فدخل العالم الإسلامي مرحلة الاختراق الثقافي والفكري، وأصبح أبناء المجتمعات الإسلامية عرضة لكل التيارات الوافدة، وكل تيار انقسم إلى أحزاب وأجزاء مختلفة، وانعكس ذلك كله على الثقافة، والإعلام، والفن، والأدب، واللغة، مما يصب في النهاية في مصلحة أعداء الأمة بتمزيق وحدتها، وبتشويش العقل الإسلامي، وإدخاله في الشك والحيرة وتصارع الأفكار.

جيل من المستغربين

     وصُنِعَ جيل من المستغربين المسلمين، حملوا على عاتقهم مهمة إكمال ما وقف عنده المستشرقون، وأغلب من حمل راية التغريب هم من الذين تربوا في الجامعات الغربية ومدارسها الحاقدة على الإسلام والمسلمين، فكانوا خلفاً مُخْلِصاً لأسلافهم المستشرقين، هؤلاء المستغربون اقتحموا الصحافة والإذاعة والتليفزيون والمدارس والجامعات، وعمدوا إلى تغريب العالم الإسلامي بشتى الوسائل والسبل، لاسيما وأن كثيراً منهم ذَوُو صِلَةٍ بمراكز الحكم والسيطرة في أغلب الدول الإسلامية.

بروز المشروع الإسلامي

     ومع سقوط الشيوعية بدأ الغرب ينظر إلى حضارة الإسلام على أنها المنافس الأول، والمزاحم الوحيد؛ لذلك يعيش هاجساً كبيراً مُؤَرِّقاً اسمه التضامن الإسلامي؛ فما زالت مراكز أبحاثهم، وجامعاتهم، ومخابراتهم تتدارس قضية أساسية وهى «احتمال بروز المشروع الإسلامي الحضاري مرة أخرى بوصفه قوة عظمى في المستقبل»؛ لذلك سعوا للسيطرة على العالم وإجهاض أي مشروع إسلامي بكل الوسائل حتى الاِستباقيّة منها، فنشطت الحركات التغريبية بقوة، وعاودت العمل في المجتمع، ورتبت صفوفها لاسيما بعد التسعينيات الميلادية؛ فكثرت مراكز الفكر الغربية المهتمة بالعالم الإسلامي، وعقدت المؤتمرات والاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تستهدف تغريب العالم الإسلامي، وبدأ الغرب يفكر في سيناريوهات تغريبية جديدة أشد قوة وتأثيراً.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك


X