رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: أبوبكر القاضي 8 أغسطس، 2019 0 تعليق

التعامل مع سير السلف في العبادة بين اﻹفراط والتفريط

كثير ما نقرأ سير السلف في اجتهادهم في عبادتهم في صيامهم وقيامهم ﻹحياء قلوبنا وتلمس هدي هؤﻻء في سيرهم إلى الله وتعاملهم الراقي في علاقتهم بربهم، بينما تعاملنا إما أن يكون غاليا أو جافيا؛ فاﻷول يؤدي إلى جلد الذات، ويصبح سياطا يعذب بها السائر إلى الله، وقد ينفر وتنكسر إرادته، وقد يصاب بالهزيمة النفسية أمام هذه السير الفذة، والثاني يكون قد خسر اﻻستفادة من هذه السير باستهتاره وإهماله وهو مقصر تمام التقصير.!

     ولذا أحاول في هذه الهمسات الثمانية أن أوضح كيفية استيعاب تلك السير وهضمها واﻻستفادة منها رغم الشقة التي بيننا وبينها، فهما وفقها وواقعا فهي مفاتيح لمعالجة المادية القاحلة والتقصير الشديد في ذلك الجانب، والتشوه المحسوس والمنظور في بناء الشخصية في الصف الإسلامي.

الهمسة الأولى

     قد يتساءل بعضنا حين ينظر لهذه السير لماذا كل هذا اﻻجتهاد؟! وقد يخيل إليه أن هذا من قبيل المبالغة والتكلف والغلو، واﻹجابة ببساطة ووضوح، كلما ازداد إيمان العبد كلما زادت شفقته على نفسه واجتهاده في الطاعة، والعكس بالعكس كلما نقص إيمانه، قل عمله مع اﻷمن، كما قد جاء في الحديث حين سألت عائشة -رضي الله عنها- النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله -تعالى-: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون}، قالت عائشة -رضي الله عنها-: يارسول الله أهؤﻻء الذين يزنون ويسرقون ؟

قال: «ﻻ يا ابنة الصديق هؤﻻء الذين يصومون ويصلون ويتصدقون ويخافون أﻻ يتقبل منهم».

     وهذا قول الحسن حين ذكر له خشية عمر رضي الله عنه حين موته: «هكذا المؤمن جمع إحسانا وشفقة، والمنافق جمع إساءة وعزة، والله ما وجدت إنسانا زاد إحسانا إﻻ وجدته ازداد مخافة وشفقة، وﻻ ازداد إساءة إﻻ ازداد عزة»، فلا داعي للمغاﻻة في تعطيل تلك السير عن فوائدها.

الهمسة الثانية

     اﻻجتهاد بالنسبة للمحسن ﻻ يتجزأ؛ فهو قد تمكن في الفرائض أوﻻ، ثم النوافل وﻻ تستقيم النوافل إﻻ بعد الفرائض، كما جاء في الحديث القدسي «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته، وﻻ يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه»، وبالنسبة للمجتهد في عبادته الاجتهاد في النوافل تحصين للفرائض؛ ولذلك تسمع أقواﻻ منهم مثل «إما اﻻجتهاد وإما الهلكة»، وآخر يذهب لصلاة الجماعة وقدماه تخطان اﻷرض!

الهمسة الثالثة

     التعامل مع هذه السير يكون محبطا وكئيبا لمن لم يفقه السنة الربانية، «ولكن كونوا ربانيين»، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: الرباني الذي يأخذ بصغار العلم ثم كباره، وهذا في العلم والعبادة والدعوة وهي سنة التدرج والتدرب والمراس حتى تصبح العبادة ملكة، فلا ينبغي أن تأخذ  لنفسك، أو في طرحك الدعوي المشهد اﻷخير من حياة أئمة السلف بعد طول مجاهدة وعناء وكد قال ثابت البناني: جاهدت نفسي في قيام الليل عشرين سنة، ثم استمتعت به عشرين سنة، فلا ينبغي تناول هذه السير بسطحية؛ فسطر منها يساوي عمرا واجتهادا وبذﻻ وتضحية سنين!

الهمسة الرابعة

العبادات الظاهرة أوعية لنزول البركات والرحمات في القلب, والعبادات الظاهرة كطرق أبواب الأرزاق الروحية والقلبية؛ فكلما عظم الوعاء وتتابع الطرق على الباب، فتح على العبد، وملئ الوعاء على قدره، «إن رحمت الله قريب من المحسنين»

الهمسة الخامسة

     اﻻجتهاد في العبادات الظاهرة متنوع بتنوع الشرع فيه وبتنوع المواهب والقدرات؛ فالواجب عليك في نفسك وفي طرحك الدعوي للسائرين إلى الله أن تبين أنه ينبغي علينا وعليهم أن نعرف ما نصلح له وما يصلح لنا على حسب طاقاتنا وقدراتنا والجهاد فيه حق الجهاد واستفراغ الوسع فيه، وليس كل الصحابة -رضوان الله عليهم- أبابكر موسوعي الطاقات، وليس كلهم ابن عباس أو خالد، بل «كل ميسر لما خلق له» وليس التقيد بصورة اﻷعمال من الربانية في شيء، ولكن حقيقة الربانية هو بذل الوسع فيما تحسن لكي تصل إليه -سبحانه- ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «سبق درهم مائة ألف» لتفاوت طاقة المنفقين.

     فكل شخص منظومة متكاملة مختلفة عن اﻵخر، وإنما يستفاد بالسير للنظر في اجتهاد السلف الهائل فيما يحسنون من ملكات، وكيفية التضحية في الوصول إلى الله من خلاله؛ فليس القضية في استفراغ الوسع فقط في القيام والصيام والذكر، ولكن إن كنت تحسن هذا فذاك وإن كنت تحسن غيره من طلب العلم والمذاكرة، أو الدعوة، والبلاغ، أو مساعدة اليتامى والمساكين، أو غير ذلك؛ فهذه ساحتك التي فيها ﻻبد أن تتخصص وتتميز وتبدع وتسبق، والناس درجات ودركات؛ فتعاملك مع المدعوين قائم على ذلك؛ فليس اﻷعرابي الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم: «أفلح إن صدق» كابن عمر -رضي الله عنهما- الذي قال عنه: «نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل».

الهمسة السادسة

     ينبغي بيان المنهج بأن أفضل الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وأن سواه مفضول وليس بسيء أو قبيح؛ فهو خطأ في اﻻجتهاد، ولكن عليه أجر وثواب، وهم حاشاهم أن يتعمدوا المخالفة أو التقليل من عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلابد من اﻻعتراف ﻷهل الفضل بالفضل، وكما نرفع عنهم الملام في اﻷمور العلمية باحتمال اﻻجتهاد في الخلاف السائغ واﻹنكار المتأدب في الخلاف غير السائغ فهكذا؛ فليظهر اﻷدب حين نطرق باب العبادة والسلوك إلى الله في حياتهم، ولنستفد ولنعالج تقصيرنا حتى في تطبيق خير الهدي وأيسره، هدي محمد صلى الله عليه وسلم من خلال سيرهم!

الهمسة السابعة

     هناك خلل واضح وعدم توازن ملحوظ في إنتاج الدعوة الإسلامية عامة بين العلم والعمل والسلوك والصحوة السلفية، ولاسيما في الشخصيات، وهذا يحتاج ﻷصل النظرة اﻷحادية في التربية، وﻻبد من شمولية العلم والعبادة والعمل والدعوة والتخلص من المادية القاحلة بثورة قلبية تعبدية متجردة لرب العالمين، وفتح اﻵفاق لتراث الزهد والسلوك السلفي المنضبط .

الهمسة الثامنة

     ينبغي لقاريء هذه السير ومستمعها، أﻻ يتعجل أثرها في قلبه، ويحصلها ريثما يفتح الله على قلبه ويرزق العمل؛ فالسعادة نصفان علم وعمل؛ فمن حصل اﻷولى بصدق وإخلاص، عسى الله أن يرزقه النصف الثاني؛ فيكون العلم كالمخزون اﻻستراتيجي الذي ﻻتدري متى تحتاج إليه حين يزال الحائل بينك وبين قلبك، «واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه»، واثبت على المجاهدة إلى الممات؛ فاﻹيمان يزيد وينقص يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي والغفلات، وأنت بين طاعة وغفلة ومعصية؛ فتدارك اﻹساءة بإحسان وتوبة وإنابة، واعلم أن الله ﻻيمل حتى تملوا، فلا تفتر وﻻ تمل.

هذه ثماني همسات ﻻستيعاب سير السلف في اجتهادهم الهائل في العبادة واﻻستفادة من ذلك التراث العظيم. أسأل الله أن ينفع بها، والله ولي التوفيق.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك