التربية والتعليم
إن للتربية والتعليم في نظر الإسلام أهدافاً سامية رفيعة تبدأ في تحقيقها لتربية المولود من اللحظة الأولى لوجوده، إذ جاء التوجيه للمربين بتهيئة الجو الصالح لاستقبال الأجيال، وذلك ابتداء من الأسرة التي تمثِّل البيئة الأولى التي تتعهد الطفل وتقوم بدورها في تربية الناشئ، وذلك الدور المهم الذي يمتد أثره إلى جميع مراحل عمر الإنسان، ثم يأتي بعد ذلك دور المدرسة للإسهام مع الأسرة في التربية والتعليم، يلي ذلك بعض الوسائط التي تقوم بدور كبير في التربية كالمجتمع والمسجد ووسائل الإعلام على اختلاف أنواعها من مرئي ومسموع ومقروء؛ إذ لا ينكر دور تلك المؤسسات في التربية والتعليم غير أن المرتكز في ذلك الأبوان أو الأسرة ثم المدرسة.
إن حق التربية والتعليم هو السبيل للنهوض بالأمم فأبناء اليوم رجال الغد، لهذا تولي كل أمة من الأمم على اختلاف نحلها واتجاهاتها هذا الأمر أهمية كبرى فتضع له الخطط والدراسات وتنفق عليه الأموال الطائلة، وكثير من تلك الأمم تولي جانباً من جوانب التربية وتغفل أخرى ظناً منها أن هذا الجانب أهم من غيره، والمتأمل في تعاليم الإسلام يظهر له أنه ينظر إلى الإنسان نظرة متكاملة توجب الاهتمام والقيام بدور شامل نحو جميع جوانب تربية الإنسان من روحية وخُلقية وجسمية وعقلية ونفسية وغيرها من الجوانب دون تمييز بينها أو اهتمام بجانب على حساب آخر، والكلام عن التربية كلام يطول، لهذا سيتركز حديثنا على وسيطتين ومؤسستين من مؤسسات التربية والتعليم ألا وهي الأبوان أو الأسرة والمدرسة، ونشير في معرض الحديث إلى بقية الوسائط والمؤسسات لكون الترابط بينها وثيقاً ولا يمكن الفصل بينها.
التربية الحسنة للأولاد واجبة على الآباء والأمهات، وهي أمانة في أعناقهم، وهي سبيل الفوز والفلاح في هذه الحياة وبعد الممات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» رواه البخاري. فيجب على الأبوين صيانة فطرة الطفل التي فطر عليها، فطرة التوحيد والإسلام والعمل على ترسيخها في نفسه بتعليمه وتلقينه مبادئ الإسلام من عقائد وعبادات ومعاملات وتعليم الأبناء التطهر من النجاسات والوضوء والصلاة، وأمرهم بالصلاة وهم أبناء سبع وضربهم عليها لعشر؛ للحديث: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها لعشر» رواه أبو داود، وعليهم أن يؤدبوهم بآداب الشرع، ويغرسوا في نفوسهم حب الله وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحب الصحابة، وحب عباد الله الصالحين، وعليهم أن يمنعوهم من الوقوع في المنكر وما حرَّمه الله تعالى ونهى عنه.
وعلى الآباء التدرج في التعليم حسب سن الأولاد والبدء بالأهم فالأهم، ولقد نصح علماؤنا رحمهم الله بالبدء بتعليم الطفل القرآن الكريم بمجرد استعداده جسمياً وعقلياً ليرضع اللغة العربية لغة القرآن وترسخ في نفسه معالم الإيمان، وفي هذا الوقت انتشرت ولله الحمد الجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم للذكور والمدارس النسائية للبنات، فما على الأب إلا أن يلحق ابنه أو ابنته بإحدى تلك الجمعيات، والمدارس ويعمل على التشجيع والمتابعة، وبذل المكافآت ومساندة تلك الجمعيات بكل ما يستطيع حتى تقوم بدورها على أكمل وجه، وعلى الوالدين تعليم الأولاد ما يعد من الأمور الضرورية للعصر الذي يعيشون فيه كالقراءة والكتابة والسباحة والرماية وغير ذلك من الأمور الحياتية التي لا يستغنى عنها.
كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أمراء الأمصار: «علموا أولادكم السباحة والفروسية وما سار من المثل وحَسُنَ من الشعر»، وقال الحجاج لمعلم: ولده «علّم ولدي السباحة قبل أن تعلمهم الكتابة فإنهم يجدون من يكتب عنهم ولا يجدون من يسبح عنهم». ويجب على الآباء توجيه الناشئ والمراهق إلى استنفاد ما لديه من طاقة، وشغل أوقات فراغه فيما يعود عليه بالنفع وصرفه عن الانشغال بأمور قد تكون سبباً في استعمال هذه الطاقة استعمالاً سيئاً، فإن من أعظم الأمور التي يجب على الآباء والمربين أن يدركوها ويجعلوها نصب أعينهم أن مخططات أعداء الدين تهدف إلى إفساد المجتمع.
إن أمة الإسلام حين تُبلى بهذه الآفات والمفاسد الخلقية وتعمل بها معاول الهدم والتآمر تفقد كل مقومات فلاح أبنائها وتفقد كل مقومات وجودها واستمرارها، بل تحكم على نفسها وأبنائها بالهلاك: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (الإسراء:16) لهذا كان واجباً على الآباء والمربين أن يحفظوا أبناءهم من مخططات أعداء الدين وأن يراقبوا أبناءهم في صحبتهم لغيرهم فلا يدعوهم يصاحبون الأشرار وفاسدي الأخلاق والأفكار الذين يعصون رب الأرض والسماء فإن صاحب السوء لا خير فيه لنفسه فلا يكون فيه خير لغيره. ويجب حفظ حواس الأبناء فلا يروا ما حرَّم الله ولا يسمعون ما حرّم الله ولا تخطو أرجلهم إلى ما حرَّم الله، وليس أضر على الناشئ من إطلاق نظره وسمعه عبر القنوات الفضائية أو شبكات الإنترنت أو ما يتناقل عبر رسائل الجوال «البلوتوث» من مناظر ومسامع تشجع على الانحراف وتفسد أخلاق الكبار فكيف بالمراهقين والأطفال الصغار؟! أضف إلى ذلك ما تعرضه صفحات الشبكات المعلوماتية من غث وسمين، وشيء من الحقيقة ممزوج بالأكاذيب يقصد به إثارة البلبلة.
إن البيئة الطبيعية التي تتعهد الطفل والناشئ بالتربية هي بيئة الأبوين، بيئة الأسرة، ولا سيما في السنوات الأولى من الطفولة ثم يأتي دور المدرسة التي هي الأداة التي تعمل مع الأسرة على تربية الطفل، فمن المقرر أن الأسرة لا تستطيع القيام وحدها بعملية التربية جميعها؛ لأن وقت الأسرة لا يسمح بالإشراف المستمر طوال مرحلة الطفولة والمراهقة والبلوغ؛ لأن التربية عملية تخصص تحتاج إلى مربين لهم خبراتهم ومعرفتهم بطبيعة الطفل وما تحتاج إليه من وسط مناسب وجو يستثير نشاطه ورغبته في العلم والتعليم، ولأن المربين يتجردون عادة من شفقة الوالدين المفرطة أحياناً، والتي قد تصل إلى حد التساهل واللين إلى حالة تشجيع الأطفال على العبث والسلوك غير الحميد، وفي المدرسة يجد الطفل من زملائه وأقرانه من يألفهم ويشاركهم ويتعلم منهم ويشعر بينهم بعضويته في مجتمعهم الذي يتميز بالتركيز على تثبيت العقيدة في قلوب الناشئة ثم إيجاد القدوة الحسنة ثم اكتساب الأخلاق الفاضلة والمعارف النافعة، والمدرسة كأي مؤسسة تعليمية تحتاج إلى وسائل للوصول للهدف المنشود وإخراج جيل يحمل رسالة أمته، وهي من أهم تلك الوسائل. ولا ريب أن للقدوة الحسنة الدور الكبير في التربية والتوجيه لمختلف فئات المجتمع ولا سيما في تربية الناشئة؛ حيث إن مستوى الفهم لديهم أدنى بكثير منه عند الكبار، فتبقى الرؤية بالعين المجردة للواقع هي أهم الوسائل للتربية فهي بالنسبة لهم أهم من الكتاب أو الدرس الملقى.
إن القدوة الحسنة المتحلية بالمبادئ والفضائل التي يراها الطفل تعطيه قناعة بأن هذه الفضائل ليست مجرد مبادئ مثالية نطمع إلى تحقيقها، بل واقع فعلي، ثم إن الطفل مدفوع برغبة خفية لا يشعر بها نحو محاكاة من يعجب بهم دون أن يقصد ذلك ولهذا كان من الخطورة بمكان ظهور المساوئ في سلوك القدوة الحسنة. إن الولد الذي يرى والده أو أستاذه يكذب لا يمكن أن يتعلم الصدق، والبنت التي ترى أمها تغش لا يمكن أن تتعلم الأمانة، يلي ذلك وسيلة أخرى من وسائل التربية وهي وسيلة الموعظة فإننا نجد أن الطفل يميل إلى سلوك بعض التصرفات السيئة فلا بد حينئذ من الموعظة، وما أعظم تأثير ذلك في قلوب الناشئة، تلك القلوب التي ولدت على الفطرة ولم تتلوث بدنس المعاصي، وللموعظة أساليب من أهمها وأبلغها أثراً لدى الناشئة الأسلوب القصصي، حيث إن انجذاب الطفل أو الشاب إلى سماع القصة وإقباله إلى متابعة أحداثها وتأثيرها يفوق تأثره بأي وسيلة أخرى، وعن طريق القصة يغرس المربي في نفس الناشئ الأخلاق السامية والصفات الرفيعة من الكرم والصدق والشجاعة والصبر والإيثار والعزة، ويولد في نفسه شعور التقوى والخوف من الله ويدفعه إلى كل عمل يقربه إلى الخير والصلاح، كما أن الاهتمام بأسلوب القصة لا يعني إهمال الأساليب والطرق الأخرى كالوصية والمحاورة، قال الله تعالى عن لقمان وهو يحاور ابنه: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّموَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (لقمان: 16 - 17).
يلي وسيلة الموعظة وسيلة العقوبة فقد لا تجدي هذه الوسائل لدى بعض الناشئة، فيصار إلى هذه الوسيلة، وقد أقر الإسلام هذه الوسيلة كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم ذكره: «مروا أولادكم للصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر» والمراد من العقاب هو إصلاح الناشئ وتحسين سلوكه، ويجب على الآباء والمربين ألا يلجؤوا إلى العقوبة إلا في أضيق الحدود، وذلك حين لا تفلح القدوة ولا تفلح الموعظة، وقد تكلم الشيخ عبدالله ناصح علوان -رحمه الله- عن الشروط التي ينبغي الأخذ بها عند إرادة استخدام تلك الوسيلة فمما ذكر: ألا يلجأ المربي إلى الضرب إلا بعد استنفاد جميع الوسائل الإصلاحية، وألا يضرب المربي أو الوالد في حالة غضب شديد مخافة إلحاق الضرر بالولد، وأن يتجنب الضرب في أماكن الحواس والأماكن الخطرة كالرأس والوجه والصدر، وألا يُضرب الطفل قبل العاشرة من عمره استدلالاً بالحديث، وألا يضرب الناشئ من أول هفوة بل يعطى فرصة لاستدراك خطئه، وأن يكون الضرب غير شديد، وإذا رأى الوالد أو المربي أن الضرب اليسير غير كاف فله أن يوجع وله أن يكرر حتى يستقيم الناشئ.
هذا ما تيسر حيال هذا الموضوع المهم، والله الموفق.
لاتوجد تعليقات