التراث والتجديد من منظور السلفية – ضرورة اتباع القرآن الكريم
أصبح موضوع التراث والتجديد في العقود الأخيرة محور اهتمام الكثير من العلماء والباحثين، والمفكرين والمثقفين، وأساتذة الجامعات، والكُتَّاب، على اختلاف انتماءاتهم الثقافية والفكرية، وحظي الموضوع بدراساتٍ وأبحاثٍ كثيرة، ومؤتمرات عديدة، وندوات ومحاضرات، امتلأت بها مئات الكتب والدوريات، والمجلات والجرائد، وناقشته وسائل الإعلام المختلفة التي تناولت وتبنَّت معالجة قضية الموروث الثقافي للأمة من وجهات نظر متباينة، لذلك كان لابد من دراسة هذا الموضوع من المنظور السلفي.
من كمال ربوبية الله -تعالى- وتعهده لخلقه: أن أرسل فيهم الأنبياء والرسل، وأنزل عليهم الكتب السماوية وزودهم بالشرائع الإلهية، وأوجب على الناس العمل بمقتضاها؛ إذ فيها صلاح دينهم ودنياهم، قال -تعالى-: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 38-39)، وقال -تعالى-: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (البقرة: 213)، وقال -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36)، وقال -تعالى-: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (المائدة :48)، إشارة إلى ما قيَّض الله لنا من الدين، وأمرنا به لنتحراه اختيارًا، قال -تعالى-: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} (الجاثية: 18)، قال ابن عباس: «الشرعة ما ورد به القرآن، والمنهاج ما وردت به السنة».
سُنّة ربانيّة
وهذه سنة ربانية ترتَّب عليها أن مَن لم تبلغه دعوة الرسل فهو مِن (أهل الفترة)، ومَن بلغته دعوة الرسل، فإنه يحاسب على مدى إيمانه بالرسل ومدى العمل بما جاؤوا به من الشرائع؛ إذ ليس له تركها أو مخالفتها. وقد خَتَم الله -تعالى- هؤلاء الأنبياء والرسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فلا نبي بعده، وختم هذه الكتب والشرائع المنزلة من السماء بالقرآن الكريم وبشريعة الإسلام، فلا كتاب سماويا بعد القرآن الكريم، ولا شريعة بعد الشريعة الإسلامية، فالقرآن الكريم هو الكتاب المهيمن على ما قبله من الكتب، والشريعة الإسلامية هي الشريعة الناسخة لما سبقها من الشرائع؛ لذا تكفَّل الله -تعالى- بحفظ هذا القرآن الكريم للأمة جيلًا بعد جيل، قال -تعالى-: ({إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9).
العمل بشريعة الإسلام
وقد أوجب الله -تعالى- العمل بشريعة الإسلام وعدم الخروج عنها حتى قيام الساعة؛ لذا فإن عيسى -عليه السلام- عندما ينزل في آخر الزمان يقتل المسيح الدجال، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويحكم بشريعة الإسلام، فلا يسعه -عليه السلام وهو في آخر الزمان- الخروج عن الشريعة الإسلامية التي نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع كون عيسى -عليه السلام- من أولي العزم من الرسل، ومع كونه أنزل عليه الإنجيل، ومع كونه قد وضع عن بني إسرائيل -حين بعث فيهم- بعض ما شدد به عليهم في شريعتهم؛ فكيف يكون لغيره من آحاد الناس ترك الأخذ بالقرآن الكريم أو الخروج عن شريعة الإسلام؟!
الشرع يزكي تراث الصحابة
وكل ما ثبت عن الصحابة من الاعتقاد وأصول الإيمان وفهمهم للدين والعمل جاء الشرع بتزكيته، ولا سيما وقد ثَبَت أنهم في هذه المسائل كانوا على قلب رجل واحد، وإجماعهم - في الاعتقاد أو العمل - لا شك في الاحتجاج به، قال -تعالى- في شأن الصحابة: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} (البقرة: 137)، وقال -[- فيهم: «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وفي الحديث الأمر بالتمسك بسنة الصحابة والأخذ بهديهم، وفيه جمع -[-سنته وسنتهم في ضمير واحد؛ فلم يقل: «عضوا عليهما»، بل قال: (عَضُّوا عَلَيْهَا)؛ لأنه عَلِم أنهم لا يفارقون سنته، بل يتمسكون بها، وإنما انتشرت سنته - صلى الله عليه وسلم -في الأرض شرقًا وغربًا مِن بعده عن طريقهم وما كانوا عليه، وفي الحض على العض عليها بالنواجذ أمر بالحرص كل الحرص على اتباعها.
وصفهم بالراشدين وبالمهديين
وفيه: وصفهم بالراشدين وبالمهديين، قال ابن رجب الحنبلي -رحمه الله-: «والسنة هي الطريق المسلوك، فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه - صلى الله عليه وسلم -هو وخلفاؤه الراشدون من الاعتقادات والأعمال والأقوال، وهذه هي السُّنة الكاملة؛ ولهذا كان السلف قديمًا لا يطلقون اسم السنة إلا على ما يشمل ذلك كله» (راجع: «جامع العلوم والحكم» لابن رجب الحنبلي - ط. مصطفى الحلبي الخامسة، 1400هـ - 1980م، ص 258 وما بعدها)، وقد أخبر -[-بوقوع الاختلاف في الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، ثم قال -في صفة هذه الفرقة الناجية-: (مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
عصمة إجماع الصحابة
فما اتفق عليه الصحابة -رضي الله عنهم- فهو حجة؛ لعصمة إجماعهم، وهو دليل قطعي عند أهل السنة والجماعة، فـ(أهل السنة لا يتصور أن يتفقوا على مخالفة إجماع الصحابة)، (فإنهم متفقون على أن إجماع الصحابة حجة)، فإذا كان الاتفاق على إجماع أهل الاجتهاد من المسلمين في عصرٍ مِن العصور على أمرٍ مِن أمور الدين يعد حجة شرعية عند الفقهاء، فلا شك أن إجماع الصحابة أولى ومقدم (للاستزادة راجع في ذلك: الكلام عن حجية الإجماع في (الإحكام في أصول الأحكام) للآمدي، و(أصول الفقه) لعبد الوهاب خلاف.
الحداثة ورفض التراث
(الاتجاه الحداثي بالمفهوم المذهبي للحداثة، الذي تشكل فيه الحداثة رفض كامل لكل ما كان وما هو كائن في المجتمع، ورفض كامل للمفاهيم السائدة في مجتمع ما وعلى تقاليده وتراثه، وفي محاولة - تيار الحداثة - هدم كل ما هو أصيل وثابت فيه، يتحدد موقفه من الحياة المتجددة).
وإن كانت هذه الروح المتمردة لم تعد عامة بالذات في السنوات الأخيرة بين أصحاب ذلك الاتجاه؛ إذ إن منهم مَن عاد ليهتم بقضية التراث، إما بمحاولة الموائمة بين التراث العربي والفكر الغربي الوافد لئلا تتفلت منا عروبتنا، وإما بالاعتراف بالتراث والتفاعل معه تفاعلًا يجعلهم يتحكمون في هذا التراث، ولا يتحكم هذا التراث فيهم.
الأساس والمنطلق
وعلى النقيض منهم فعند الإسلاميين عامة وعند السلفيين منهم خاصة، (فإن التراث يمثِّل لديهم الأساس والمنطلق للحركة النهضوية الصحيحة، وللنظر في الواقع المعاصر، حتى أصبح التراث لدى العصرانيين مرادفا للسلفية، والسلفيون هم التراثيون) (المصدر السابق، ص 325).
نظرة القائلين بالحداثة
والقائلون بالحداثة على اختلاف مشاربهم ينظرون إلى التراث وَفْق معطيات مسبقة تعتمد على أولوية العقل، وإقصاء النصوص الشرعية وحجبها، من خلال تبنى التشكيك فيها وعدها قابلة للنقد والتحرير، والعمل على تفكيكها؛ تمهيدًا لتقليد النموذج الغربي والأخذ به.
من أبرز معالم هذه الحداثة
- الاعتماد الكامل على العقل، فهو المرجعية الأولى للمعرفة عندهم، وهو المصدر الوحيد لها، فالعقل عندهم قادر -ابتداءً- على إنشاء المعارف دون حاجة إلى وصاية خارجية.
- التحرر الكامل من النصوص والضوابط والأخلاق، والقِيَم والمعايير، وأحكام الشريعة؛ فللعقل أن يقرأ ما يريد، وأن يقول ما يريد.
- محاولة تقديم نموذج مأخوذ من النموذج الغربي على أنه هو النموذج الناجح لخروج الأمة العربية من تخلفها وتأخرها عن مصاف الأمم المتقدمة.
- زعمهم عجز الثقافة الإسلامية والموروث الإسلامي بمكوناته من نصوص الكتاب والسنة عن تقديم حلول لمشكلات الواقع، أو أن تكون حلولًا صالحة للتطبيق؛ مما يستلزم عندهم تجاوزها.
لاتوجد تعليقات