التدين غاية الوجود
الرؤية العلمانية للدين والإنسان تنطلق من رؤية تحقيرية للإنسان تجعله سليلا للحيوانات
عبَرت البشرية للقرن الحادي والعشرين، ولا يزال قطاع كبير منها لم يدرك الغاية من هذا الوجود! بل وتسرب هذا الجهل أو الشك لبعض المسلمين، إما بسبب الهزيمة النفسية والحضارية نتيجة للأوضاع والأحوال المادية السلبية للمسلمين عموما، أو نتيجة لضعف باليقين وجهل بالعقيدة مكنت سيول الشبهات من زعزعة الإيمان لديهم.
بينما آيات القرآن الكريم تكشف بوضوح وصراحة وتكرار عن علة الوجود، وهي التدين لرب العالمين، ومن تلكم الآيات قوله -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: ٥٦)، وقوله -جل في علاه-: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (الكهف: ٧)، وقوله -سبحانه-: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (هود: ٧).
تحقيق الاستقرار والاتزان للوجود
إن القرآن الكريم يقرر هذه الحقيقة بوضوح وقوة، ويبين أن هذه الحقيقة هي التي تحقق للوجود الاستقرار والاتزان، فالكون مسخر للبشرية {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثية: ١٣)، وتسخير الكون للبشر حقيقة قائمة وواقع ملموس، برغم أن البشر ليسوا أكبر المخلوقات ولا أقواها، ولا أكثرها قدرة في الصفات من السرعة أو الصلابة أو التحمل أو البصر أو السمع وغيرها، ومع ذلك سخر الكون كله لهم ليقوموا بغاية وجودهم وهي التدين لرب العالمين، ويكونوا جاهزين لمواصلة الحياة الحقيقية في الجانب الآخر من الحياة هناك في الجنة، مرورا بحياة البرزخ في القبر.
غاية الوجود
والتدين لله -عزوجل- وعبادته التي هي غاية وجودهم ووجود السماوات والأرض يشمل الاعتقاد والإيمان بالله -عز وجل- وما يتفرع عنه من الإيمان بالغيب واليوم الآخر، ويشمل القيام بالعبادات والشعائر والأحكام الشرعية، ويشمل عمارة الكون والاستخلاف فيه بالحق.
الحقيقة القرآنية
ولعله ونحن في زمن فايروس الكورونا (كوفيد ١٩) تتجلى هذه الحقيقة القرآنية التي تربط تسخير الكون للبشر، ليقوم البشر بتحقيق علة خلقهم ووجودهم وهو عبادة الله -عزوجل-، لكن حين فرط البشر في تحقيق العبودية لله -عز وجل- بالإعراض عن الإيمان به واتباع رسوله فأسرفوا في الكفر والإلحاد، وأوغلوا في المحرمات، كأكل الميتة والمحرمات، سلط الله عليهم فيروسا حقيرا لم يبلغ مرتبة أدنى كائن حي؛ فأذل رقابهم جميعا ومرغ أنوفهم! ومما يدل على عظمة الله وجبروته وضعف البشر كلهم برغم كل تقدمهم وحداثتهم أن وزن كل فايروسات الكورونا التي أصابت للآن ما يزيد عن ٤ ملايين إنسان في كل دول العالم يبلغ من ٢-٣ غرامات فقط!!
الوقاية من الكورونا
والعجيب أن الوقاية من الكورونا هي بالتزام سنن الإسلام في النظافة وأحكام الشريعة بأكل الطيبات فقط؛ حيث تتوازن علاقة الإنسان بالكون حين ينضبط بمنظومة الإيمان وأحكامها، فهل تفهم البشرية علة وجودها فتؤمن بالله -عز وجل-، وتستقيم على شريعة خاتم الرسل والأنبياء محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتضبط سيرها لتعود حالة الاتزان والاستقرار للكوكب ولحياتها؟
الدين سابق على البشرية
وبرغم تكرر هذا المعنى صريحا في القرآن الكريم من أن الدين سابق على البشرية بل هو علة وجودها، فلا يزال هناك من المسلمين من يتأثر بنظرية (دوركايم) بخصوص الدين وأن الدين هو منتج اجتماعي! وبرغم أن تطور علم الاجتماع الديني أثبت خطأ فرضيات دوركايم؛ حيث كشفت الأدلة الأنثربولوجية والأركيولوجية أن الدين عموما، وعقيدة التوحيد خصوصا، هو الأصل في الجنس البشري، كما بين ذلك (لانج وباسكال وشميت وبروس وكوبر) من علماء تاريخ الأديان.
خطأ دوركايم
بل إن العلماء اليوم يصرحون بخطأ دوركايم في تفسير مظاهر الدين والتدين لدى القبائل التي درسها؛ حيث تبين أن ما جعله دوركايم من وثنية وإباحية وشرك وعبادة (الطوطم) هو الأصل في تلك المجتمعات، اتضح أنها حالة الشذوذ والتمرد على التدين الأصل والعام للقبيلة وهو الاعتقاد بخالق وإله واحد والأخلاق المحافظة!
مكانة الدين ومكانة الإنسان
إن تعارض الرؤية الإسلامية مع الرؤية العلمانية في مكانة الدين ومكانة الإنسان ينبع من كون الإسلام يؤمن بأن آدم آصل الإنسان مخلوق بيدي الله -عز وجل- مباشرة، وأن الله -عز وجل- علّم آدم ما لم يعلّمه للملائكة، وجعل الملائكة تسجد له، وأن جنس البشر مكرم على كثير من المخلوقات {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (الإسراء: ٧٠)، وأن الدين جاء ليكون سببا لسعادتهم ورفعتهم وعزهم وشرفهم، قال -تعالى-: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (الأنبياء: ١٠)، وفعلا كلما تمسك المسلمون بدينهم سعدوا وعزوا.
رؤية تحقيرية للإنسان
بينما الرؤية العلمانية للدين والإنسان تنطلق من رؤية تحقيرية للإنسان تجعله سليلا للحيوانات! لا غاية له ولا تكريم، وأنه نشأ جاهلا لا دين له فعبد الأشجار والأحجار قبل أن يخترع التوحيد! وبعد ذلك تمدن وسرى في مجرى العلمانية والحداثة فنبذ الدين ولم يجد سبيلا له إلا أن يتطبع بطباع الحيوانات مرة أخرى! فيحرص على ملذاته وشهواته ولو أضرت بنفسه، كما نرى في آثار المخدرات والخمر والفواحش وأكل الخبائث، وتمجيد القوة والبطش كما في أفلام الأكشن والألعاب الإلكترونية، وذلك قبل أن ينتهي بانتحار أو موت مخز بجرعة زائدة ثم يظنون أن القصة انتهت!
لاتوجد تعليقات