التحذير من الفتن
إن من أعظم ما حذرت منه الشريعة، وأكثرت من التحذير منه ما جاء في النصوص المحذرة من الفتن وتتابعها وكثرتها في آخر الزمان، ويجب أن نعلم أن الناس كلما بَعدُوا عن زمن الوحي والتنزيل كلما كثرت فيهم الفتن وتتابعت، قال[: «وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِى أَوَّلِهَا وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاَءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا». رواه مسلم.
وبيّن صلى الله عليه وسلم أن كثرة الفتن في آخر الزمان واقعة؛ فقد شبهها بالمطر الذي يتخلل البيوت، وفي هذا إشارة إلى كثرتها من جهة، وخفائها من جهة أخرى.
ويبين -عليه الصلاة والسلام- أنه نظراً لكثرة الفتن الواقعة؛ فإنه يرقق بعضها بعضاً أي يظن الواقع فيها أنها من أشد ما وقع عليه والأمر خلاف ذلك، قال صلى الله عليه وسلم : «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِىٌّ قَبْلِى إِلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِى أَوَّلِهَا وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاَءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا وَتَجِىءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَتَجِىءُ الْفِتْنَةُ؛ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِى. ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِىءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ هَذِهِ. فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِى يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ؛ فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَرِ». رواه مسلم.
ومن نفيس وصف النبي صلى الله عليه وسلم للفتن وصفه لها بقوله: «ستكون فِتنةٌ صمَّاءُ بكْماءُ عَمياءُ» رواه أبو داود، إشارة إلى أن الفتن إذا وقعت ذهبت معها القلوب وحارت معها العقول، ووقع الناس في الفوضى والاضطراب، وضاع الأمن وأريقت الدماء، وكل هذا مما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم القائل: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَهَرْج، قالوا: وَمَا الْهَرْجُ؟ قال: الْقَتْلُ، قالوا: أَكْثَرُ مِمَّا نَقْتُلُ؟ إِنَّا لَنَقْتُلُ كُلَّ عَامٍ أكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا، قال: إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمُ الْمُشْركِينَ، وَلَكِنْ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، قالوا: وَمَعَنَا عُقُولُنَا يَوْمَئِذٍ؟ قال: إِنًّهُ لَتُنْزَعُ عُقول أهْلِ ذلِكَ الزَّمَانِ، وُيخَلَّفُ لَهُ هَبَاءٌ مِنَ النَّاسُ، يَحْسَبُ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ وَلَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ». رواه أحمد.
وقال صلى الله عليه وسلم : «لَيأْتينَّ على الناس زمان، لا يدري القَاتِلُ في أَيِّ شيء قَتَلَ، ولا يدري المقتولُ في أَي شيء قُتِلَ؟ قيل: وكيف؟ قال: الهَرْجُ، القَاتِلُ والمقتولُ في النار» أخرجه مسلم.
إن المتأمل لما يجري اليوم في بلاد المسلمين من إراقة الدماء، وشيوع الفوضى، وضياع الأمن وتأليب الكفار على المسلمين ليدرك عظم الخطب، وهول الأمر وشدة الوقع، الأمر الذي يستدعى من الجميع وقفة مع النفس التي يجب أن يزمها المؤمن بزمام الشرع، لا أن تدفعه حماسات وعواطف أبعد ما تكون عن دين الله -تعالى- وشرعه ودينه.
إن من المؤسف حقاً أن يكون مصدر تلقي الناس لأمر دينهم تحليلات السياسيين، وأخبار المحللين، إن من المؤسف حقا أن يصبح معرفة الشرع في آخر اهتمامات المتابعين، ولا يخفى على أحد أن من أعظم قواعد الشريعة الموازنة بين المصالح والمفاسد وليس التهييج والإثارة، في هذا الأمر الذي ليس لكل أحد، وإنما مرده وتقديره للعلماء الراسخين والعلماء الربانيين.
ولأن اشتغال الكل بالفتن يزيد النار اشتعالاً، ويؤدي إلى مزيد فرقة واختلاف قال -تعالى-: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء:83).
قال السعدي -رحمه الله-: هذا تأديب من الله لعباده، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة من مصالح العامة فيما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو الخوف الذي هو مصيبة عليهم، أن يثبتوا وألا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى أولى الأمر منهم، الذين هم أهل الرأي، والعلم، والنصح، والعقل، والرزانه، الذين يعرفون الأمور، ويعرفون المصالح وضدها.
وقال النووي -رحمه الله-: إذا كان الأمر من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة مثل وجوب الصلاة، والصيام، وتحريم الزنا، وشرب الخمر فكل المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد، لم يكن للعوام مدخل فيه ولا لهم إنكاره، بل ذلك للعلماء.
لاتوجد تعليقات