رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 31 ديسمبر، 2016 0 تعليق

البينة على المدعي

بعض الناس تجاوز مرحلة اتهام الأفراد بالسرقة والاختلاس إلى اتهام المجتمع بأسره دون تفصيل ولا تفريق بين الصالح وغيره

الواجب على المسلم أن يحفظ لسانه عن الخوض في أعراض الناس واتهامهم في دينهم أو ذممهم أو أعراضهم دون دليل ولا برهان

 

يتساهل بعض الناس في إلقاء التهم على الآخرين، وقذف الناس بالمزاعم والظنون، من غير نظر إلى أدلتها وبراهينها ليعلم صدقها أو كذبها، ومع الأسف تجد كثيرا من مجالس الناس اليوم تدور حول هذه الموضوعات بمثل هذه العقليات.

والواجب على المسلم أن يحفظ لسانه عن الخوض في أعراض الناس واتهامهم في دينهم أو ذممهم أو أعراضهم دون دليل ولا برهان؛ فقد قال تعالى: {ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا} (سورة النساء:112).

     قال الشيخ ابن سعدي: «{ومن يكسب خطيئة} أي: ذنبا كبيرا {أو إثما} ما دون ذلك. {ثم يرم به} أي: يتهم بذنبه بريئا من ذلك الذنب، وإن كان مذنبا. {فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا} أي: فقد حمل فوق ظهره بهتا للبريء وإثما ظاهرا بينا، وهذا يدل على أن ذلك من كبائر الذنوب وموبقاتها، فإنه قد جمع مفاسد عدة: كسب الخطيئة والإثم، ثم رمي من لم يفعلها بفعلها، ثم الكذب الشنيع بتبرئة نفسه واتهام البريء، ثم ما يترتب على ذلك من العقوبة الدنيوية، تندفع عمن وجبت عليه، وتقام على من لا يستحقها، ثم ما يترتب على ذلك أيضا من كلام الناس في البريء إلى غير ذلك من المفاسد التي نسأل الله العافية منها ومن كل شر».

     وأخرج البخاري عن ابن أبي مليكة أن امرأتين كانتا تخرزان في بيت أو في الحجرة، فخرجت إحداهما وقد أنفذ بإشفى في كفها فادعت على الأخرى، فرفع إلى ابن عباس فقال ابن عباس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو يعطى الناس بدعواهم لذهب دماء قوم وأموالهم» ذكروها بالله واقرؤوا عليها: {إن الذين يشترون بعهد الله}، فذكروها فاعترفت، فقال ابن عباس: «قال النبي -صلى الله عليه وسلم -: «اليمين على المدعى عليه»، وأخرجه البيهقي بلفظ: «لو يعطى الناسُ بدعواهم، لادَّعَى رجال أموالَ قومٍ ودماءَهم، ولكن البينة على المدعِي، واليمين على مَن أنكر».

     قال ابن المنذر: «أجمع أهل العلم على أن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه، قال: ومعنى قوله: «البينة على المدعي» يعني: يستحق بها ما ادعى؛ لأنها واجبة يؤخذ بها، ومعنى قوله: «اليمين على المدعى عليه» أي: يبرأ بها؛ لأنها واجبة عليه، يؤخذ بها على كل حال». وقال النووي: «وهذا الحديث قاعدة كبيرة من قواعد أحكام الشرع، ففيه أنه لا يقبل قول الإنسان فيما يدعيه بمجرد دعواه، بل يحتاج إلى بينة أو تصديق المدعى عليه، فإن طلب يمين المدعى عليه فله ذلك.  وقد بين - صلى الله عليه وسلم - الحكمة في كونه لا يعطى بمجرد دعواه؛ لأنه لو كان أعطي بمجردها لادعى قوم دماء قوم وأموالهم واستبيح، ولا يمكن المدعى عليه أن يصون ماله ودمه، وأما المدعي فيمكنه صيانتهما بالبينة».

     فالخلاصة أن اتهام الناس بغير دليل ولا برهان من الكذب والبهتان؛ وقد حرم الشرع الغيبة والبهتان، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أتدرون ما الغيبة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم قال: «ذكرك أخاك بما يكره» قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته» أخرجه مسلم.

     ومع الأسف فإن بعض الناس قد تجاوز مرحلة اتهام الأفراد بالسرقة والاختلاس إلى توسيع دائرة الاتهام لتشمل المجتمع بأسره دون تفصيل ولا تفريق بين الصالح وغيره، فسادت ثقافة التخوين، واتهام المجتمع بالسرقة والخيانة بلا دليل ولا  برهان؛ فالأصل في الناس عنده الخيانة والسرقة، وكل من عداه فهو سارق وخائن، وكل تصرف تجريه الدولة أو الأفراد فالباعث عليه السرقة، وأكل الأموال بغير حق.

اتهامات وتخوين

ومع الأسف طغت هذه الصفة على مجالس الناس، فلا تسمع إلا اتهامات بالتخوين والسرقة، كأن المجتمع خلا من الشرفاء سواهم، مع أن الأصل في المسلم السلامة والعدالة حتى يثبت عكس ذلك بالدليل والبرهان، قال عمر في رسالته لأبي موسى: «المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا حدا أو مجربا عليه شهادة زور».

     وقال أيضًا: «إن أناسًا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم  - وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسب سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة».

تعميم سوء الظن

     وتعميم سوء الظن بالمجتمع مذموم شرعا؛ فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم «.أخرجه مسلم، قال النووي: «روي (أهلكهم) على وجهين مشهورين: رفع الكاف وفتحها، والرفع أشهر، ومعناها: أشدهم هلاكا، وأما رواية الفتح فمعناها: هو جعلهم هالكين، لا أنهم هلكوا في الحقيقة.

واتفق العلماء على أن هذا الذم إنما هو فيمن قاله على سبيل الإزدراء على الناس، واحتقارهم، وتفضيل نفسه عليهم، وتقبيح أحوالهم، لأنه لا يعلم سر الله في خلقه.

     قالوا: فأما من قال ذلك تحزنا لما يرى في نفسه وفي الناس من النقص في أمر الدين فلا بأس عليه كما قال: لا أعرف من أمة النبي -صلى الله عليه وسلم - إلا أنهم يصلون  جميعا. هكذا فسره الإمام مالك، وتابعه الناس عليه.

     وقال الخطابي: معناه لا يزال الرجل يعيب الناس، ويذكر مساويهم، ويقول: فسد الناس، وهلكوا، ونحو ذلك فإذا فعل ذلك فهو أهلكهم أي: أسوأ حالا منهم بما يلحقه من الإثم في عيبهم والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه، ورؤيته أنه خير منهم».

حفظ اللسان

     فعلى المسلم أن يحفظ لسانه، ويحسن الظن بالناس، ويحمل أمورهم على أحسن الأحوال، ولا ينساق خلف الأهواء الزائفة، والتهم الباطلة، ويوزع الاتهامات جزافا، فمن ادعى أمرا عليه أن يقيم البينة أو يتوقع عاقبة الغيبة أو البهتان، وليعلم أن الله -تعالى- مطلع عليه، ومحاسبه على أفعاله كما قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (سورة الإسراء: 36)

      قال ابن عباس في تفسير الآية: «يقول: لا ترم أحدا بما ليس لك به علم». وقال الطبري: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: لا تقل للناس وفيهم ما لا علم لك به، فترميهم بالباطل، وتشهد عليهم بغير الحق، فذلك هو القفو.

      وأما قوله: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} فإن معناه: إن الله سائل هذه الأعضاء عما قال صاحبها، من أنه سمع أو أبصر أو علم، تشهد عليه جوارحه عند ذلك بالحق».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك