البنيان المرصوص (5)
إن الستر مندوب إليه في شريعتنا السمحة الغراء، وهو من الفضائل عند الله وعند الناس بأن تستر على أخيك في حال زلته، بأن تستر عيبه ولا تفضحه، والستير صفة من صفات الله تعالى، والله تعالى يحب من عباده أن يتصفوا بصفاته بما يليق بهم، وصحيح أن المخلوقين لا يشبهون الله في صفاته ولله المثل الأعلى والكمال المطلق، لكن لأن ديننا أمر بالستر فعلينا من هذه الصفة بقدر ما نستطيع، قال [: «من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة» جزء من حديث رواه مسلم، قال النووي: أما الستر المندوب إليه هنا فالمراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس هو معروفا بالأذى والفساد، فأما المعروف بذلك فيستحب ألا يستر عليه بل ترفع قضيته إلى ولي الأمر إن لم يخف من ذلك مفسدة؛ لأن الستر على هذا يطمعه في الإيذاء والفساد وانتهاك الحرمات وجسارة غيره على مثل فعله.
هذا كله في ستر معصية وقعت وانقضت، أما معصية رآه عليها وهو بعد متلبس بها فتجب المبادرة بإنكارها عليه ومنعه منها على من قدر على ذلك ولا يحل تأخيرها، فإن عجز لزمه رفعها إلى ولي الأمر إذا لم يترتب على ذلك مفسدة، وأما جرح الرواة والشهود والأمناء على الصدقات والأوقاف والأيتام ونحوهم فيجب جرحهم عند الحاجة، ولا يحل الستر عليهم إذا رأى منهم ما يقدح في أهليتهم، وليس هذا من الغيبة المحرمة بل من النصيحة الواجبة انتهى. وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله [: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود» صحيح أبي داود برقم 4375، و«أقيلوا» أمر من «الإقالة» أي أعفوا، وذوو الهيئات: أصحاب المروءات والخصال الحميدة وقيل: ذوو الوجوه عند الناس أو هم أصحاب الصغائر دون الكبائر، أو أنهم الذين إذا ألموا بالذنب ندموا عليه وتابوا منه، وروى البيهقي عن الشافعي - رحمه الله - أنه قال: «وذوو الهيئات الذين يقالون عثراتهم: الذين ليسوا يعرفون بالشر فيزل أحدهم الزلة» قال ابن عبد الملك: «الهيئة الحالة التي يكون عليها الإنسان من الأخلاق المرضية» انتهى، وعثراتهم زلاتهم أو أنها صغائر الذنوب التي لا توجب الحدود، أو أنها أول معصية زل فيها مطيع قال الخطابي: «فيه دليل على أن الإمام مخير في التعزير إن شاء عزر وإن شاء ترك». والشاهد أن المراد من ذكر الحديث أن من عثر بدون قصد هو كمن تتعثر قدمه وتزل فلا يؤاخذ على هذا ولا يؤدب عليه، ويستحب التجافي عن زلته والعفو عنه والتجاوز وفي حديث آخر عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله [ قال: «تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب» صحيح، سنن أبي داود برقم 4376. وهذا أمر من التعافي أي العفو والخطاب لغير الأئمة، وهو أمر بالتجاوز عنها وعدم رفعها إلى الإمام فمتى علمها الإمام أقامها، وفيه أن الإمام لا يجوز له العفو عن حدود الله إذا رفع الأمر إليه، وهو بإطلاقه يدل على أنه ليس للمالك أن يجري الحد على مملوكه، بل يعفو عنه أو يرفع إلى الحاكم أمره وفي الحديث الترغيب بالستر على الناس والعفو عنهم ووجوب التناصح في السر والخفية وعدم تعمد الفضيحة بين الناس؛ لما في ذلك من شيوع أجواء التكافل الاجتماعي والتعاون على البر والتقوى والسماحة في الدين؛ لأن الإمام مخير في التعزير.
لاتوجد تعليقات