البنيان المرصوص (3)
حقيقة المفلس
جاءت الشريعة بالمحافظة على الضرورات الخمس الواجبة رعايتها في جميع الأديان وبحفظها يكون صلاح المعاش والمعاد ونظام أحوال الدارين، وهي الدين والعقل والنفس والنسب والمال، فمن هذه الضرورات المحافظة على الأعراض وعدم المساس بها أو قربها وهي من حسن الخلق، ومن سوء الخلق أن يسب الرجل أخاه، ويعد السب من المساس بالأعراض فيجري على اللسان ما يغضب الآخر ويبوء به الساب بالإثم والخسران بل يشهر إفلاسه، والإنسان إذا أشهر إفلاسه ذل وهان وحزن وخسر الدنيا، ومن تعرض لأعراض الناس خسر الدنيا والآخرة؛ فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله[ قال: «أتدرون من المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار» رواه مسلم.
لنتدبر معا قول النبي[ ففيه الهدى، فهذا الرجل الذي يتكلم في أعراض الناس وقد يكونون من أهله وأقاربه أو جيرانه أو عموم الناس أو من يساوونه في المرتبة وتوجد بينه وبينهم منافسة؛ هذا الرجل في ظاهره الصلاح نظرا لالتزامه بصلاته وصيامه وزكاته، لكنه أفسد هذه الأعمال بالتعرض لأعراض الناس وسبهم وقذفهم، وبسبب هذا قد يفقد أعماله الصالحة التي طالما أداها وحافظ عليها وداوم على فعلها، كالمرأة التي كانت تؤذي جيرانها بلسانها؛ فقال الرسول[: «هي في النار» مع أنها كانت تكثر من الصيام والقيام، لكن الله تعالى لا يحب التعرض للناس بسوء بسبب أن الضرر متعد على الآخر، ويحب أداء الحقوق لأهلها، فإذا لم تؤد هذه الحقوق استوفى كل ذي حق حقه يوم القيامة حيث لا ينفع مال ولا بنون؛ فلا وساطات ولا شفاعات إلا من أذن له الله تعالى له، فهذا المتعدي يفقد حسناته وتوضع عليه خطايا خصمه ثم يطرح في النار بسبب الخوض في الأعراض؛ فيشهر إفلاسه من الحسنات وهذه حقيقة المفلس في يوم يحتاج فيه للحسنات.
قال المازري : وزعم المبتدعة أن هذا الحديث معارض لقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}، وهذا الاعتراض غلط منه وجهالة بينة؛ لأنه إنما عوقب بفعله ووزره وظلمه فتوجهت عليه حقوق لغرمائه، فدفعت إليهم من حسناته، فلما فرغت وبقيت بقية قوبلت على حسب ما اقتضته حكمة الله تعالى في خلقه وعدله في عباده، فأخذ قدرها من سيئات خصومه فوضع عليه فعوقب به في النار، فحقيقة العقوبة إنما هي بسبب ظلمه ولم يعاقب بغير جناية وظلم منه، وهذا كله مذهب أهل السنة، انتهى.
ومعلوم أن هناك قنطرة بين الجنة والنار يقتص فيها من كل غريم لغريمه، والنكتة هنا أن هذه القنطرة توضع قبل الدخول إلى الجنة وبعد جواز الصراط فوق النار، فيحال بينه وبين دخول الجنة بسبب حقوق العباد، وهذا قمة الخيبة والخسران.
أما إذا استب اثنان فعلى البادئ منهما؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله[ قال: «المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم» رواه مسلم، قال النووي: معناه أن إثم السباب الواقع من اثنين مختص بالبادئ منهما كله، إلا أن يتجاوز الثاني قدر الانتصار فيقول للبادئ أكثر مما قال له وفي هذا جواز الانتصار، ولا خلاف في جوازه، وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة؛ قال تعالى: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل}، وقال تعالى: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون}، ومع هذا فالصبر والعفو أفضل؛ قال تعالى: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}.
واعلم أن سباب المسلم بغير حق حرام؛ كما قال[: «سباب المسلم فسوق»، ولا يجوز للمسبوب أن ينتصر إلا بمثل ما سبه ما لم يكن كذبا أو قذفا أو سبا لأسلافه، فمن صور المباح أن ينتصر بـ: يا ظالم يا أحمق أو يا جافي أو نحو ذلك؛ لأنه لا يكاد أحد ينفك من هذه الأوصاف، قالوا: وإذا انتصر المسبوب استوفى ظلامته وبرئ الأول من حقه وبقي عليه إثم الابتداء أو الإثم المستحق لله تعالى، وقيل: يرتفع عنه جميع الإثم بالانتصار منه ويكون معنى «على البادئ»: أي عليه اللوم والذم، لا الإثم. ا.هــ
ومعلوم أن من مقاصد الشريعة حفظ الأعراض، ومن تكلم في عرض أخيه عرض نفسه لكلام الناس في عرضه، وربما قيل: لماذا تكلم فلان في عرض فلان؟ أليس هو من فعل كذا وكذا؟! للذي تكلم؛ فيبوء بالخسران بسبب مساسه بأعراض الناس؛ فليتق الله كل من سولت له نفسه في الكلام في الناس، وليعلم أن الأيام دول .
النكتة: الأثر الصغير من أي لون كان، والنكتة كالنقطة وهي اللطيفة المؤثرة في القلب، وتطلق على المسائل الحاصلة بالنقل المؤثرة في القلب، والنكتة مسألة لطيفة أخرجت بدقة نظر وإمعان فكر، وسميت المسألة الدقيقة نكتة؛ لتأثر الخواطر في استنباطها.
لاتوجد تعليقات