البناء الإداري وأثره على العمل الدعوي
المسؤولية تعني إدراكك للواقع والمشكلات الموجودة في نطاق مسؤوليتك مع تحديد نقاط قوتك وضعفك بوضوح
يعد البناء الإداري أحد أهم مقومات تماسك البناء الدعوي وحمايته من هبوب رياح الفردية، والصدمات العاطفية، والرؤى الشخصية التي قد تعصف بأي كيان مهما كانت مهارات أفراده وإمكاناته، كما أنه لازم لضبط تكامل مسارات العمل الدعوى اللازم لنشر العبودية المنشودة داخل المجتمع، ومنع حدوث التعارض والاختلاف بين الأفراد الذي يؤدي إلى اضطراب القرارات والتوجهات التي تضعف ثقة المجتمع في تلك الكيانات الإصلاحية، وتسبب ضعف وجوده.
وقد أشار الله -عزوجل- إلى أهمية هذا المقوم في تلك الآيات الكريمة التي نجول بخواطرنا حولها فقال -تعالى-: {وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ}، والأمة كما قال المراغي هي: «الجماعة المؤلفة من أفراد لهم رابطة تضمهم، ووحدة يكونون بها كالأعضاء في بنية الشخص»، وقال الرازي في تفسيره: «قَوْلَهُ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} يَقُولُ: لِيَكُنْ منكم قوم يعني: واحد أَوِ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلاثَة نَفَرٍ فَمَا فَوْقَ ذلك»، وقال السعدي أيضا في تفسيره: «أي: لتكن منكم جماعة يحصل المقصود بهم في هذه الأشياء المذكورة، ومن المعلوم المتقرر أن الأمر بالشيء أمر به، وبما لا يتم إلا به، فكل ما تتوقف هذه الأشياء عليه فهو مأمور به».
بناء جماعي محكم
ولكي تكون لهذه الطائفة رابطة تضمهم وبنية واحدة تعينهم على تحقيق غايتهم الإصلاحية، فلابد لهم من بناء إداري جماعي محكم، وقد نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على مثل هذا في أقل تجمع للأفراد وهو ثلاثة نفر، وأقصر زمن محتمل وهو السفر، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم».
قال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار بعد ذكره لروايات هذا الحديث المتعددة: «وفيها دليل على أنه يشرع لكل عدد بلغ ثلاثة فصاعداً أن يؤمروا عليهم أحدهم؛ لأن في ذلك السلامة من الخلاف الذي يؤدي إلى التلف، فمع عدم التأمير يستبد كل واحد برأيه، ويفعل ما يطابق هواه؛ فيهلكون، ومع التأمير يقل الاختلاف وتجتمع الكلمة، وإذا شرع هذا لثلاثة يكونون في فلاة من الأرض أو مسافرين فشرعيته لعدد أكثر يسكنون القرى والأمصار ويحتاجون لدفع التظالم وفصل التخاصم أولى وأحرى»، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الحديث أيضا: «فأوجب - صلى الله عليه وسلم - تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر؛ تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع».
قواعد إدارية صحيحة
فهذا بيان واضح إلى أن وجود أي كيان إصلاحي أو عمل تعاوني يتطلب وجود بناء إداري منظم وواضح، له رأس وهيكل، ومسؤوليات وواجبات لازمة على أفراده، مبنية على قواعد إدارية صحيحة، وهذه القواعد تحتاج لتفعيلها أمورا عدة منها:
ثقافة الالتزام الإداري
نشر ثقافة الالتزام الإداري بين الأفراد ووضع اللوائح المنظمة والملزمة له، من الأمور التي يعاني منها العمل الدعوي عبر مساره، كذلك وجود قناعات فردية بأنماط تنفيذية مختلفة للمسارات الدعوية طبقا للطبائع والميول الشخصية للأفراد أو طبقا للواقع المحدود الذي يعيشه بعضهم، الذي أدى إلى عدم وجود ثقافة العمل الإداري الشامل ومتطلباته عند بعض الشخصيات - التي قد تكون مؤثرة بذواتها في باقي أفراد الكيان-، وهو ما يمثل في الحقيقة عقبة كؤود عند توجه الكيان الإصلاحي إلى جماعية الأداء وتنوع المساحات والمجالات، ويتسبب في وقوع مشكلات داخلية تتعلق بالتسيير والإدارة والعلاقات والاتصالات، وما لهذا من أثر سلبي على مسيرة الكيان وتحقيق أهدافه.
لابد من ثقافة شاملة
لذلك فلابد من ثقافة شاملة، ووعي راق عند أفراد الكيان كبارًا وصغارًا بأهمية وجود بناء إداري جيد بنظم ولوائح إدارية مناسبة، تساهم في تطوير أداء هذه الكيانات الجماعية الإصلاحية؛ من حيث إنها:
1- تساهم في أن يكون العاملون في الكيان ملتزمين بمنظومة القيم والمبادئ التي يتمحور حولها الكيان، ليظهر ذلك في أدائهم وسلوكهم وعلاقاتهم التكاملية الدعوية والإنسانية.
2- تحقق استقرارا نفسيا للأفراد مع نمو مهاري دائم لهم من خلال اتباع سياسة منظورة للجميع، سواء في التأهيل أم الاختيار أم الترقي، مما يساعد على عدم نشوب خلافات توجيهية بين أفراد الكيان.
3- تضمن عدم عشوائية اتخاذ القرارات ولا سيما في القرارات المصيرية، وفي الوقت ذاته عدم دكتاتوريته، وذلك من خلال اتباع الجميع (قادة وأفرادا) لنظم العمل المتفق عليها بين الجميع من (سياسات وقواعد وإجراءات)، تعمل على تحقيق الأهداف بما يتفق مع رؤية الكيان.
4- تساعد على الاستفادة من الجهود السابقة والخبرات المتراكمة، والمهارات المتنوعة الحالية، بعد دراستها جميعا وصهرها في بوتقة الواقع، فيحسن الاستغلال لها في مواضعها المناسبة.
5- تحقق للكيان القدرة على تواصل الأجيال وتقديم القيادات البديلة المناسبة والمدركة لرؤيته والواقع المحيط به ولا سيما في بعض أوقات الطوارئ التي قد يتعرض الكيان الإصلاحي فيها لأزمة تهدد وجوده أو تستدعي التغيير والتبديل في بعض أفراده.
6- تساعد على وضوح الأهداف والمسؤوليات، وتدفع في اتجاه تحمل المسؤولية من الجميع، مما يساهم في مضاعفة المنتج المستهدف مع جودته وقوته.
7- نتمكن به من تجاوز أمراض النفوس الفردية وسلبيات الأعمال العشوائية، مع القدرة على مواجهة تحديات الواقع والمكر المتتابع من الحانقين والمتآمرين.
حسن القيادة والتفهم لواجبات المسؤولية
من أعظم الأسباب التي قد تهدم أي كيان قائم، عدم إدراك القائد أو المسؤول -أيًّا ما كان موقعه- لمتطلبات تلك المسؤولية أو تكاسله عن أدائها على الوجه الذي ينبغي له؛ لذلك فإن الرسالة التي يجب أن توضح لكل مسؤول في بداية عمله أن يدرك أن:
- المسؤولية تعني: إدراكك للواقع والمشكلات الموجودة في نطاق مسؤوليتك مع تحديد نقاط قوتك وضعفك بوضوح لتتحرك بأليات مناسبة لإمكانياتك.
- المسؤولية تعني: الاعتناء والتخطيط لإدارة هذا الواقع الذي يقع تحت نطاقك للوصول به نحو الأفضل.
- المسؤولية تعني: طول نفس وصبر متتابع، ومواجهة للواقع بتفاصيله المؤلمة لا الهروب منه، مع الإصرار على حل المشكلات المزمنة القديمة برؤية متأنية عاقلة، وكذلك مواجهة المشكلات الحادثة الجديدة أولا فأول، مع عدم وضع الرأس في الرمال كالنعام وتجنب التعامل مع ذلك الواقع إيثارًا لراحة النفس أو خوفا من ضيق الصدر.
- المسؤولية تعني: المتابعة الدقيقة لآليات التنفيذ في المساحات التي تحت مسؤوليتك مع الحركة الدؤوبة للتقويم السريع الدائم للوصول إلى نتائج مرضية.
- المسؤولية تعني: عدم الديكتاتورية بل تلزم بمناقشة الآراء المطروحة والاستماع الجيد لها لتطوير الكيان.
- المسؤولية تعني: إتاحة الفرص للكفاءات في فريقك لتحمل المسؤولية أمامك والعمل على تقويتهم وتقويمهم، لا إحباطهم وإبعادهم خوفًا على موقعك.
- المسؤولية تعني: أن يكون التقديم والتأخير للأفراد داخل فريقك بناء علي مُقومات الكفاءة والقوة والأمانة، لا على درجات المطاوعة والانصياع والراحة النفسية فقط.
- المسؤولية تعني: الحرص على صناعة الكوادر الجديدة المتخصصة داخل الفريق، والعمل على تطويرهم وترقيتهم لاستمرار العمل مِن بعدك.
- المسؤولية تعني: التحرك للأمام فيما تم ائتمانك عليه ولو ببطءٍ؛ لا أن تظل محلك سر لسنواتٍ وسنوات، ثم تظل متمسكًا بموقعك.
- المسؤولية تعني: أن تكون قدوة صالحة عملية لمرؤوسيك قبْل أن تكون مصدرًا لإلقاء الأوامر عليهم فقط.
- المسؤولية تعني: أن تترك موقعك وأنتَ مطمئن على صحة المسير بعدك ودوامه.
- المسؤولية عبارة عن: تكليف لا تشريف، أمانة لا وجاهة، الغنم دائمًا فيها بالغرم.
- المسؤولية تحتاج: إلى تجرد وإخلاص وتوفيق من الله مع قوةٍ ومهارةٍ وسلامةِ صدر وقوة شخصية حتى يتحقق منها المراد.
لاتوجد تعليقات