رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: خالد السبت 18 أغسطس، 2020 0 تعليق

البصيرة في الدين حقيقتها ومراتبها ومنزلتها (2)

                                   

ما زال الحديث موصولاً عن البصيرة في الدين، وقد بينا أن الحديث عن البصيرة في الدين خلال هذه الأيام ماسة وشديدة، لكثرة ما نشاهده من الفتن، والأمور التي تزلزل الناس، فنحن بحاجةٍ إلى مدارسة هذه القضايا حينًا بعد حين، وأن نتذاكر، وأن نتواصى، وأن نتناصح، وألا نمل، ولا نفتر من طرح هذه الموضوعات.

أحوال البصيرة

     البصيرة بمنزلة البصر للعين، فهي تتفاوت، والناس يتفاوتون فيها، كما يتفاوتون في البصر، أو أعظم من ذلك، فالبصر كما أنه يتأثر بأدنى ما يقع فيه، فيشوشه، ويضر بناظره، فكذلك هذه البصيرة، فإنها تكون تارةً عمياء، لا تبصر شيئاً، وتارةً تكون ضعيفة الإبصار - يعني مريضة - وتارة تكون صحيحة، مبصرة، تميز بين الحق، والباطل، والله -تبارك وتعالى- يقول: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (الزخرف: 36).

     فعبر عن ذلك بهذا الوصف {وَمَنْ يَعْشُ} وأصل العشا في العين هو ضعف بصرها، والمراد هنا عشا البصيرة، نسأل الله العفو، والعافية. وفي قوله -تبارك وتعالى- عن المنافقين: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (البقرة: 15) فعبر عن ذلك بـ(العمه) والعمه عمى القلب، وظلمة البصيرة، وأثره الحيرة، والاضطراب، وعدم الاهتداء للصواب، وكما قال الله -تبارك وتعالى-: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} (الرعد: 19).

منشأ الجهل

     العمى وحده هو الذي ينشئ الجهل بهذه الحقيقة الكبرى، الواضحة، التي لا تخفى إلا على العميان، فالعمى عمى البصيرة، وانطماس المدارك، واستغلاق القلوب، وانطفاء قبس المعرفة في الأرواح، فيكون الإنسان متخبطاً، كالأعمى الذي يسير في طريق لا يهتدي فيها، ولا يعرف كيف يتجه؟

بصائر الناس

وبناء على ذلك صارت بصائر الناس في هذا النور الباهر تنقسم ثلاثة أقسام:

مَن عَدِم البصيرة بالكلية

- القسم الأول: مَن عَدِم البصيرة بالكلية، فصار في حال من العمى، فاضمحلت بصيرته، فهو في ظلمات، كما ذكر الله خبر المنافقين في سورة البقرة، في المثل المضروب لهم: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} (البقرة: 19)، فهؤلاء لا يرون من هدايات القرآن، ومن أنواره، وإشراقاته إلا الظلمات، والرعد، والبرق، فهو يجعل أصبعه في أذنه من الصواعق، ويجعل يده على عينه من البرق خشية أن يخطف بصره، فهو لا يجاوز نظره ما وراء ذلك من الرحمة، وأسباب الحياة الأبدية، فهذا القسم أصحابه أولئك الذين لم يرفعوا لهذا الدين رأساً، ولم يقبلوا هدى الله الذي هدى به عباده، ولو جاءتهم كل آية لما انتفعوا بها؛ لأنه سبقت لهم من الله الشقاوة، وإنما فائدة إنذار هؤلاء هي إقامة الحجة عليهم - والله المستعان.

أصحاب البصائر الخفاشية

- القسم الثاني: هم أصحاب البصائر الخفاشية، (البصائر الضعيفة)، الذين أصابهم في بصائرهم شيء من الضعف لأسباب معلومة، سيأتي ذكر بعضها - إن شاء الله تبارك وتعالى -، فهؤلاء نسبة أبصارهم إلى هذا النور، والهدى الذي جاء به الرسول -[- كنسبة بصر هذا الإنسان الضعيف إلى هذه الأشياء التي نشاهدها من الأمور المتشخصة، التي نراها في هذه الدنيا، فهؤلاء هم الذين نشأوا على دين الأسلاف، فدينهم دين العادة، الذين ورثوا ذلك وراثة من غير أن يكون لهم معرفة، وبصر، وقناعات، وعلم بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإذا عرضت لهم الشبهات تزلزلوا، وحرّكتهم، وأورثهم ذلك ريباً، وشكاً، وكان ذلك سبباً لارتكاسهم، وتراجعهم، وردتهم عن دينهم.

أولو البصائر النافذة

- القسم الثالث: هم خلاصة هذا الوجود، وهم لباب بني آدم، وهم أولو البصائر النافذة، الذين عرفوا الحق بدلائله، فأبصروه على حقيقته، فهؤلاء هم الذين يثبتون إذا تواردت الشبهات، أو لاحت، وعرضت لهم الشهوات، لما عندهم من اليقين الثابت الكامل، الذي لا يتزعزعون معه حينما ترد مثل هذه الأمور التي تعصف بكثير من الناس، كما نشاهد في مثل هذه الأيام.

الطريق إلى البصيرة

ما الأمور التي تنجلي معها البصيرة في نفوسنا، وقلوبنا، فنكون من أصحاب البصائر؟

أولاً: الإيمان

     والله -تبارك وتعالى- يقول: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأنعام: 99).

     فالإيمان هو الذي يفتح القلب، فيستنير، وتستنير البصيرة، وينبه أجهزة الاستقبال عند الإنسان، فينتفع ببصره، وينتفع بسمعه، وينتفع بحواسه، وتستجيب فطرته، ويكون الإنسان في حال من التأثر، والاعتبار، والانتفاع بكل ما يشاهده، بخلاف أصحاب البصائر المطموسة، الذين يمرون على هذه الآيات، وقد انتكست فطرهم فلا ينتفعون بشيء من ذلك، ولا يتأثرون به.

ثانياً: تقوى الله -تبارك وتعالى

     الله -تعالى- يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} (الأنفال: 29)، فهذا الفرقان هو البصيرة التي يفرق الإنسان بها بين الحق، والباطل، وبين معدن الحق، ومعدن الشبهات، ومعلوم أن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} وهذا هو الحكم الذي رُتب على هذا الوصف، وهو تقوى الله -تعالى-؛ فهذا الحكم يكون لهم بقدر ما يكون عندهم من الوصف المتقدم، وهو التقوى، فإذا كان الإنسان متقياً لله -تعالى- انفتحت بصيرته، ويكون له من البصيرة على قدر ما يكون عنده من التقوى، الحكم المرتب على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، فعلى قدر تقوانا لله -تبارك وتعالى- يكون عندنا من البصيرة، ولهذا جاء عن سليمان بن عتيق - رحمه الله - أنه قال: لما وقعت الفتنة قال طلق بن حبيب: اتقوها بالتقوى.

قالوا: وما التقوى؟

     قال: أن تعمل بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله، والتقوى ترك معاصي الله على نورٍ من الله، خوف عقاب الله، وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: «بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا، ويمسي كافرًا، و يمسي مؤمناً، ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا»، وهكذا في قوله - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر الفتن: ماذا أُنزل الليلة من الفتن؟ ماذا أُنزل من الخزائن؟ من يوقظ صواحب الحجرات - يعني أزواجه - عليه الصلاة، والسلام - من يوقظهن لماذا؟ من يوقظهن لقيام الليل، يبادرن بالأعمال، وذلك لأمرين:

الأول: أن الناس ينشغلون حال الفتن عن العبادة.

والأمر الثاني -والله تعالى أعلم-: أن العبادة لها أثر في التوفيق، والهداية، والتسديد، والثبات على الصراط المستقيم إذا وقعت الفتن.

     وكثير من الناس إذا وقعت الفتنة يضطربون، ويسألون ما العمل؟ وما المخرج؟ وما دورنا؟ وما المطلوب؟ وكان ينبغي على هؤلاء أن يعدوا أنفسهم للفتن قبل وقوعها برصيد من تقوى الله-تعالى- وطاعته، ولزوم عبادته، والإقبال عليه ظاهراً، وباطناً، فمثل هؤلاء يُرجى للواحد منهم أن يثبت، ويرجى للواحد منهم أن يسدد، وأن يستقيم، وإلا فإن الآخرة دار لا تصلح للمفاليس، كما أن الفتن لا يثبت، ولا يقف أمامها أولئك المفاليس، إلا من لطف الله -تعالى- به، ورحمه، وانتشله من حمأتها.

السقوط وقت الفتن

     ولذلك تسمع في أوقات الفتن عن أولئك الذين يتساقطون، وتكثر هذه الظواهر في مثل تلك الأوقات، فتجد هذا لربما ينتسب إلى شيء من العلم، لكنه كان خاويًا من العبادة، ثم بعد ذلك ينحرف، ويسلك طريقاً آخر، بل قد يكون معول هدم، يشكك في الثوابت، ولربما يدعو إلى أمور بخلاف ما كان يدعو إليه قبل ذلك، وهذا لربما كان يشتغل بنوع من الاشتغال، بنوع من الأعمال يظن أنها مما تقربه إلى الله، وقد لا تكون كذلك، ثم بعد ذلك ينتكس انتكاسة كبيرة يرفع الناس إليها أبصارهم، ثم يظهر على بعض القنوات يتبجح، وأنه كان على حال، ثم أبصر خيراً منها، وأنه لربما لم يكن يعرف من حقائق الدين ما عرفة الآن.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك