رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: خالد السبت 8 سبتمبر، 2020 0 تعليق

البصيرة في الدين حقيقتها ومراتبها ومنزلتها (5)

ما زال الحديث موصولاً عن البصيرة في الدين، وقد بينا أن الحديث عن البصيرة في الدين خلال هذه الأيام ماسة وشديدة، لكثرة ما نشاهده من الفتن، والأمور التي تزلزل الناس، فنحن بحاجةٍ إلى مدارسة هذه القضايا حينًا بعد حين، وأن نتذاكر، وأن نتواصى، وأن نتناصح، وأن لا نمل، ولا نفتر من طرح هذه الموضوعات، وكنا تحدثنا عن كيفية تحقيق التقوى وذكرنا منها خمسة أمور وهي: فعل الطاعات، وترك المعاصي، ومعرفة الأدلة الهادية، والتفر في آيات الله، واليوم نكمل هذه الأسباب.

أكل الحلال

إن أكل الحلال له تأثير عجيب في التوفيق، والهداية للصواب، والحق، ومن الحرام يتولد عمى البصيرة، وظلام السريرة، كما يقول ابن الجوزي - رحمه الله -:

التقلل من الفضول بأنواعه

     فضول النظر، فضول الكلام، والأكل، والشرب، والخلطة، والنوم، فهذا الفضول كله يورث الغفلة إذا كان في المباح، فكيف إذا كان ذلك فيما حرمه الله -تعالى-؟! فإن من أكثر من هذا الفضول ضعفت بصيرته، وتلاشت، وصارت الغفلة غالبة عليه، ولذلك ذكروا مثلاً من فوائد الجوع: صفاء القلب، وإيقاد القريحة، وإنفاذ البصيرة، قالوا: فإن الشبع يورث البلادة، ويعمي القلب، ويكثر الأبخرة في الدماغ، فهو شبيه بالسكر، فيثقل القلوب، فلا تجري في الأفكار التي كان ينبغي أن تجري فيها، ولا يكون لها من سرعة الفهم، والإدراك، بل قالوا: إن الصبي إذا أكثر من الأكل بطل حفظه، وفطنته، وذهنه، وصار بطيء الإدراك، والفهم، والمعرفة.

الرغبة فيما عند الله

     أن يكون العبد راغباً فيما عند الله -تبارك، وتعالى-، وأن يجعل أمرك لله -تعالى- ليكن تطلعك، وإقبالك على ربك، وخالقك -سبحانه-، فحينما يعمل الإنسان الأعمال الصالحات من الأمور القاصرة، أو الأمور المتعدية، يكون أمره لله لا يريد عرضاً من الدنيا، لا يريد منزلة، وحظوة من المخلوقين، لا يريد منهم تقديراً، واحتراماً، وإشادةً، وتقديماً، وما إلى ذلك، فمن كانت نيته الدنيا أُعطي منها، ونقص من آخرته أضعافه، وتفرق عليه الهم، وكثر بالحرص، والرغبة شغله، ومن كانت نيته الآخرة أعطي من البصيرة، والحكمة، والفطنة، وفتح له من التذكرة، والعبرة بقدر نيته، وجمع له همه كما ذكر ذلك بعض أهل العلم.

أمور مكملة للبصيرة

     فمن ذلك: الصبر، كما ذكر ابن القيم - رحمه الله - فذلك لقاح البصيرة، فإذا اجتمعا فالخير في اجتماعهما، يقول الحسن البصري - رحمه الله -: إن شئت أن ترى بصيراً لا صبر له رأيته، وإذا شئت أن ترى صابراً لا بصيرة له رأيته، فإذا رأيت صابراً بصيراً فذاك.

     وهكذا العزيمة فإنها لقاح البصيرة، فإذا اجتمعا نال صاحبهما خير الدنيا، والآخرة، وبلغت به همته من العلياء كل مكان، فتخلُّف الكمالات إما من عدم البصيرة، وإما من عدم العزيمة، يعني: يبصر الحق، يعرف الحق لكن لا عزيمة له على سلوك طريقه، والعمل بمقتضاه.

أمور تضعف البصيرة

أما ما يضعفها فأشير إلى جملة من الأمور تبلغ خمسة:

- أولاً: الكفر بالله -تبارك، وتعالى-؛ فهو يطمسها بالكلية فتظلم بصيرته، والله -تعالى- ضرب المثل لهذا بقوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُور} (النور: 40)، فالكفر ظلمة منقطعة عن نور الله -تعالى- وضلال، لا يرى فيه القلب أقرب علامات الهدى، فهذه بلية، ومصيبة إذا بُلي العبد بها فإنه لا يبصر الطريق إلى الحق بحال من الأحوال.

- ثانياً: النفاق

فزرع النفاق ينبت على ساقيتين، كما ذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله:

- الأولى: الكذب، والثانية الرياء، ومخرجهما من عينين - يعني: أن هاتين الساقيتين تخرجان من عينين - الأولى: ضعف البصيرة، والثانية: ضعف العزيمة، فضعف البصيرة يجعل هذا الإنسان يقبل على ما يضره، يرائي الناس، فيضيّع أعماله، ويضيع نصيبه عند الله، ولا يزيده ذلك في قلوب الخلق إلا مقتاً، ولا يزيده من الله -تبارك، وتعالى- إلا بعداً، وهو لا يشعر.

     وهكذا حينما تضعف بصيرته فإن عزيمته تكون ضعيفة خامدة، فإذا تمت هذه الأركان الأربعة استحكم نباتُ النفاق، وبنيانه، والله قال عن المنافقين: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (البقرة: 9)، فهذا يدل على أن العمل السيئ قد يعمي البصيرة، والإنسان لا يشعر بما حوله، وما يقع له، هنا: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} فنفى عنهم الشعور، فلا يشعر بما حوله، وهذا أمر عظيم، ولا يكون إلا بسبب انطماس البصائر.

ثالثاً: المعاصي

     قال البخاري - رحمه الله - في الصحيح: باب ما يحذر من الحدود، وقال ابن عباس: ينزع منه نور الإيمان في الزنا، وأورد البخاري - رحمه الله - حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن، ولا يشرب الخبر حين يشربها، وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق، وهو مؤمن، ولا ينتهب نُهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم، وهو مؤمن، قالوا في شرحه كما جاء في قول المهلب: ينزع منه نور الإيمان، يعني ينزع منه بصيرته في طاعة الله لغلبة الشهوة عليه.

     الشهوة تكون مثل السكر، يكون على بصرة مثل الضباب إذا غلبت الشهوة، فيقع في هذه المعصية، لكن المؤمن سرعان ما يفيق، ويندم، ويتراجع، وتتحرك النفس اللوامة، فتلومه على مواقعة المعصية، أو الفاحشة، فهذه البصيرة حال المواقعة للمعصية كأنها نور أطفأته هذه الشهوة من قلبه، ويشهد لهذا قوله -تبارك، وتعالى-: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين: 14)، وقد قال مالك للشافعي - رحمه الله - حينما رآه لأول وهلة، قال: إني أرى الله -تعالى- قد ألقى على قلبك نوراً، فلا تطفئه بظلمة المعصية، فهذا النور لا يزال يضعف، ويضمحل مع مواقعة المعاصي، ومع ظلماتها حتى يصير القلب في مثل الليل البهيم.

فوائد غض البصر

     وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فوائد غض البصر، وأنه يورث نور القلب، والفراسة، واستشهد بقوله - تعالى- عن قوم لوط - عليه الصلاة، والسلام -: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (الحجر: 72)، فالتعلق بالصور يوجب فساد العقل، وعمى البصيرة، وسكر القلب، بل جنونه، وذكر -تبارك، وتعالى- آية النور عقب آيات غض البصر، فقال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} (النور: 35).

      وهذا فيما يعرف بعلم المناسبة، يعني: وجه الارتباط بين هذه المذكورات المتتابعة في كتاب الله -تعالى-: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ، وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} (النور: 30) فذكر هذا، ثم إن الله -تبارك، وتعالى- ذكر بعده قوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ، وَالْأَرْضِ} (النور: 35)، مما يدل على أن غض الأبصار يورث انفتاح البصائر، فكيف بأولئك الذين يسرِّحون أبصارهم، ويجلسون ليلاً طويلاً أمام بعض المواقع الإباحية، وينظرون إلى ما لا يحل لهم النظر إليه؟ كيف تكون البصائر مع هذه الحال؟

      شيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: إن الله يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله، فغض البصر عما حرم الله يعوض العبد به من جنسه بما هو خيرٌ منه، فيطلق الله تعالى نور بصيرته، ويفتح عليه باب العلم، والمعرفة، الجزاء من جنس العمل، وقد ذكر نحو هذا الحافظ ابن القيم - رحمه الله - في الجواب الكافي.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك