البشائر النبوية للأعمال الخيرية (17) الإ عانة على الخير من أفضل الأعمال
عن أبي ذرّ - رضي الله عنه -، قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أي العمل أفضل؟ قال: «إيمان بالله، وجهاد في سبيله»، قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: «أعلاها ثمنا، وأنفسها عند أهلها»، قلت: فإن لم أفعل؟ قال: «تعين ضايِعًا، أو تصنع لأخرق»، قال: فإن لم أفعل؟ قال: «تدع الناس من الشر، فإنها صدقة تصدق بها على نفسك»، الحديث أخرجه الإمام البخاريّ في (صحيحه)(2518)، وفي (الأدب المفرد)(220)، وبوّب عليه فيه: (بابُ معونَةِ الرّجل أخاه)، وكذا أخرجه مسلم في (صحيحه)(136).
يتضمّنُ الحديثُ سؤالَ أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن أفضل الأعمال، وهو سؤالٌ مألوفٌ وقعَ من كثيرٍ من الصّحابَةِ -رضي الله عنهم-، وقد كان -صلى الله عليه وسلم - يجيبُهُم إجاباتٍ متنوّعةً بحسب أحوالهم وما يرى فيهم من اختلافِ ظروفهم وأشخاصهم؛ لأنّ الأعمالَ كما تتفاضَلُ في ذاتها، فإنّها أيضاً تتفاضَلُ بحسب طبيعةِ العاملِ وزمانِه ومكانِه.
أفضل الأعمال
يبيّن الحديث أنّ الإيمانَ بالله والجهادَ في سبيلِه هو أفضل الأعمال، وأمّا إذا أرادَ الإنسانُ أنْ يتقرّبَ إلى الله -تعالى- بعتْقِ الرّقيقِ والعبيدِ، فإنَّ أفضلَ الرّقابِ التي يسعى في عتقها هي الرّقبةُ النّفيسةُ عند أهلها، التي لا يبذلونها إلّا بثمنٍ غالٍ، أمّا إذا عجزَ الإنسانُ عن ذلك، فإنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يرشدُه إلى أمرٍ هو محلّ الشاهد من هذا الحديث.
تعين ضايِعًا أو تصنع لأخرق
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تعين ضايِعًا، أو تصنع لأخرق»، هكذا جاء ضبطُها في كثيرٍ من الرّوايات: ضايِعًا، أو ضائعًا بالهَمز، ومعناه: «ذا ضِيَاعٍ من فقرٍ أو عيالٍ أو حالةٍ قصَّرَ عن القيام بها»، كما قال ابن الجوزي في (كشف المشكل من حديث الصحيحين (1/364).
وجاء في بعض الروايات كما في صحيح مسلم: صانعًا، وهو الذي يُجِيدُ صنعةً يتكسّب منها ويُحسِنُ القيامَ بها، فإنّ مثلَه معلومٌ أنّه قد يحتاجُ إلى إعانةٍ من وجوهٍ متعدّدة، وهذا الضّبطُ هو المرجَّحُ عند المحقّقين؛ لأنَّ مقابلتَه بالأخرَقِ تكشفُ عن أنّه هو المراد.
وأمّا الأخرق، فهو الذي لا يُحسِنُ الصّناعةَ ولا العمل، ولا يتمتّع بالرِّفْقِ والهدوءِ اللّازمِ لإتقانِ الصّنعةِ، فهو في الخُلاصة ضعيفُ التأهيلِ وفيه قصورٌ شديدٌ عن بلوغ حاجتِه في الكسب دون مساعدةٍ من غيره (انظر: مقاييس اللّغة (2/172)، قال ابن الصّلاح في المعنى المجمل لهذه العبارة: «والمعنى إذا رأيت من يحاول عملا، فإن كان يحسنه فأعنْه عليه، وإن لم يحسنه فاعمله له» (صيانة صحيح مسلم (ص262).
إعانَةُ الصّانعِ
ولماذا قُدِّمَت إعانَةُ الصّانعِ على إعانةِ الأخرقِ غير الصّانع بما يُشعِرُ بالتفضيل؟
نقلَ الحافظُ -رحمه الله- جوابَ ذلك عن ابن المنيّر، فقال: «قال ابن المنيّر: وفي الحديث إشارة إلى أنّ إعانةَ الصّانع أفضلُ من إعانةِ غيرِ الصّانع، لأنّ غيرَ الصّانعِ مَظِنَّةُ الإعانةِ فكلّ أحدٍ يعينُه غالبًا، بخلافِ الصّانعِ فإنّه لشهرتِه بصنعتِه يُغْفَلُ عن إعانتِه، فهي من جنس الصّدقة على المستور» (فتح الباري (5/150)).
ما يسعى فيه أهلُ الأعمالِ الخيريّة
أقول: فإنَّ ما يسعى فيه أهلُ الأعمالِ الخيريّة، من تأسيسِ المشاريع المنتجةِ لأهلِ الحِرَفِ والصّناعات، الذين يمتلكونها معرفيا، ويعجزون عن توفيرِ ما يلزمُ لممارستِهَا من آلةٍ أو مكانٍ ملائِمٍ لصناعاتهم، أو انتشالِ المتعثّرين منهم من الضّوائِقِ الموسميّةِ وآثارِ الجوائِحِ، أو آثارِ ما يؤدّي إلى تعطُّلِ بعضِ الصّناعاتِ وتوقُّفِها من الحروب والظروف السياسيّة، كلُّ ذلك من الإيمانِ الذي شَهِدَ به النبيّ - صلى الله عليه وسلم .
وأمّا غيرُ الصّانع الذي هو أقلّ تأهيلاً، فإنّه أحوجُ إلى الإعانةِ بلا شكّ، وحاجته تشتدّ أكثر من الصُّنَّاع عندما تحلّ الظروف الصّعبةُ التي تعُمّ النّاس، لأنّه في أغلب الأحيان معدَمٌ، لا يملكُ مُدَّخَراتٍ تنهضُ بحاجاتِه حتى ترتفعَ الشّدّة.
أجرِ الإرشادِ والدَّلالةِ والتنفيذِ
وللعاملين في المجالِ الخيريّ -بحرصهم على الإنفاقِ الرّشيد في هذه الوجوه، وبتنميتهم أموالَ المؤسّساتِ الخيريّة المفوَّضِين باستثمارها؛ لتغطيةِ هذه الوجوه- أوفرُ نصيبٍ من الشهادةِ بالإيمانِ الواردِ بهذا الحديث، فإنَّهم إنْ لم يكن لهم إسهامٌ في إيجادِ المواردِ على نحوٍ مباشرٍ، فإنّهم لا ينفكّون عن أجرِ الإرشادِ والدَّلالةِ والتنفيذِ، وإنّها لبركةٌ وأيّ بركة! وفضيلةٌ وأيّ فضيلة! وأمّا آخرُ الحديثِ فمعناهُ ظاهرٌ في فضيلةِ كفّ الشّرّ عن النّاسِ لمن عجزَ عن كلّ وجوه الخير.
من فوائد الحديث
- الحديث دليل على حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على الخير؛ حيث سؤالهم عن أفضل الأعمال كثيرة.
- والحديث دليل على أفضلية إعانة الناس فيما يحتاجونه، سواء كان حاذقًا فيُعانُ، أم كان جاهلاً فيصنع له.
- من أوجه الفضل التعاون على الخير وإعانة الصانع حتى لا يتحول لعاطل عن العمل.
- ينبغي إعانة المصانع والمتاجر المتعثرة بسبب طارئ -كوباء أو فيضان أو زلزال- من أموال الصدقات حتى يستمر ولا تؤول إلى الإغلاق.
- بذل المعروف باب من أبواب الخير ونيل للثواب العظيم إذا اشتمل على الإخلاص.
- وكلما كان العبد أكثر بذلاً للمعروف، كان أكثر جنياً لثمراته، وتحصيلاً لآثاره التي جمعت خيري الدنيا والآخرة.
لاتوجد تعليقات