البشائر النبوية للأعمال الخيرية (١٩) التراحم من الإيمان
أخرج البخاريّ ومسلم في صحيحيهما عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم وتعاطُفِهِم، كمَثَلِ الجَسَدِ، إذا اشتكى عضو تداعى له سائرُ جَسَدِه بالسّهر والحُمّى». يضربُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث العظيمِ الجامعِ مثلاً لعلاقاتِ المؤمنين وصِلاتِهم ببعضهم، فهو حديثٌ يصفُ هيئةَ اجتماعِ الجماعةِ المؤمنةِ اجتماعًا مادّيًّا واقعًا إذا كان يضمّهم مكانٌ واحدٌ، واجتماعًا قلبيًّا معنويًّا إنْ نأَتْ بهم الأماكن، وتباعدت الدّيار، فإنّ هذا الحديث في كِلا الحالَيْن يشبّههم بأنّهم كالجسد الواحد، الذي لا يمكن أنْ يسكُن أو يهدَأ وواحدٌ من أعضائِه يشكو اعتلالاً أو مرضًا، بل كأنّ سائِرَ الجَسَدِ يهجُرُ النَّوْم، وتتداعى أعضاؤُه إلى السّهرِ للتخفيف عن العضو الشّاكي، بل إنّ أثرَ اعتلالِ العضوِ يظهرُ ظهورًا مباشرًا على سائرِ الجسَدِ الذي يُصابُ بالحُمّى في معظمِ أنواعِ الشّكايات.
كلام النبيّ - صلى الله عليه وسلم
إنَّ هذا الحديثَ الشّريف، المتضمّن لهذه الصّورة التي بلغت من الفصاحةِ ذُروَتَهَا، ومن البلاغةِ غايتها، لتذكّرنا بقول الجاحظِ في وصف كلام النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «وهو الكلامُ الذي قلّ عددُ حروفِه، وكثُر عددُ معانيه، وجلَّ عن الصَّنْعَة، ونُزِّهَ عن التكلّف، وكان كما قال الله -تبارك وتعالى-: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}.
التشبيه البديع
كيف لا؟ والإنسانُ إذا تأمَّلَ هذا التشبيهَ البديعَ يجدُه قد أخذَ بلُبِّه وأَسَرَ فِكْرَه! فإنَّ الحديث يُخبِرُ أنَّ المؤمن لكي تكتملَ فيه صفةُ الإيمان، ليس بوُسعِه أن يتجاهلَ ما ينزلُ بإخوانِه المؤمنين من أسباب الضّيقِ والشّكايَة، ولا يسعه أن يُغمض عينَه عنها، بل يسعى للاستجابةِ إلى ما ينزِلُ بهم ويقومُ بكلّ ما يقدرُ عليه للتّخفيف عنهم، وإنْ فرّطَ في شيءٍ من ذلك مع قدرتِه عليه لم يتمّ إيمانُه، وكانت عضويّتُه في مجتمعِ المؤمنين الكُمَّلِ مخدوشةً مقدوحًا فيها.
قال ابن الجوزي: «إنّما جعلَ المؤمنين كجسدٍ واحدٍ لأنّ الإيمانَ يجمعُهم كما يجمع الجسدُ الأعضاء، فلموضعِ اجتماع الأعضاء يتأذّى الكلُّ بتأذّي بعضهم، وكذلك أهل الإيمان، يتأذّى بعضهم بتأذي بعضهم». (كشف المشكل من حديث الصحيحين (2/212)).
على المسلم أن يهتم بأمر إخوانه
فعلى المسلم أن يهتم بأمر إخوانه، ويسأل عن أخبارهم، ويعين ضعيفهم، وينصر مظلومهم، ويمنع ظالمهم، ويدعو لهم كما يدعو لنفسه، والذي لا يهتم لأمر إخوانه ولا يتأثر بما يصيبهم من فرح أو حزن إنما هو كالعضو الميت الذي لا يحس.
التوازن الدقيق
فالتوازن الدقيق في تعامل المجتمع مع بعضه، يتأثر كما يتأثر الجسد مع العضو المصاب، حيث بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العلاقة بين سنن البشر، وسنن المادة في حديث المركب؛ ليبين للمسلمين أن للمجتمع قانوناً يترابط به ليحميه من الغرق. فيقول: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعاً.
مشاركة أهل الإيمان
فمشاركة الآخرين من أهل الإيمان في كل ما يعيشونه من أفراح وأتراح هو الأصل وهو القاعدة التي ربى عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه؛ فأهل الإيمان هم أهل توادد وتعاطف وتراحم ليس بينهم فضاضة أو غلظة أو قسوة أو لا مبالاة، إيمانهم ألزمهم بذلك حتى رحم الكبير منهم الصغير، والعالم منهم الجاهل، والجبير منهم الكسير، والبصير منهم الضرير، والواجد منهم المعدم، وهكذا حتى تكون هذه الأمة المسلمة نموذجا للأمم الأخرى التي تغلب عليها الأنانية والمعاملات الدنيوية المحضة المصلحية، التي لا تمت للإيمان والعقيدة بصلة.
الجمعيّات الخيريّة
والآن إذا نظرنا إلى العالم الإسلاميّ كلّه، على كثرةِ نوازلِه ومتاعبِ المسلمين فيه، فإنّنا نجدُ أنّ أوّل أعضاء هذا الجسدِ الكبيرِ تداعياً بالحُمّى والسّهر على باقي الأعضاء: الجمعيّات الخيريّة، ونعني منها: تلك المؤسسات الصادقة الباذلة، المتابِعَة لشؤون المؤمنين بكلّ إخلاص، التي ترفعُ لواءَ المعونةِ العاجلةِ لكلّ منكوب ومستغيث، وتؤسّس لمشاريعها على أساس تعميمِ نفعِهَا العامّ لكلّ المسلمين.
إسقاط الفرض الكِفائِيّ عن الأمّة
ألا فأَبشروا أيّها العاملون في هذا الميدان، بأنَّكم تُسقِطُونَ الفرضَ الكِفائِيَّ عن الأمّة كلّها بقيامكم بفريضةِ التّداعي إلى المساعدةِ والإغاثةِ والتوسعةِ على محتاجي المسلمين وفقرائهم، وأبشروا بأنّكم حَمَلَة المشاعل، وقادَة المسيرة، وبوّابةُ إيصالِ ما يقتضيه التوادُّ والتّعاطُفُ والتراحُم بين المؤمنين؛ فإنَّكم بصنيعكم هذا علامةٌ على بقاء الإيمانِ في الأمّة، وضمانةٌ لاستمرار الحياةِ في جسد الأمّة الإسلاميّة.
من فوائد الحديث
1- جواز ضرب الأمثال لتقريب المعاني للأفهام.
2- تعظيم حقوق المسلمين.
3- الحض على التراحم والتواد والتعاطف وملاطفة بعضهم بعضًا.
4- أنّ هذه الصورة من الترابط والتراحم لا تكاد تُعرف في العصر الحديث إلا إذا تحرّكت الجمعيّات الخيريّة، فلها النصيب الأوفر من تحقيق هذا الوصف في جماعة المؤمنين.
لاتوجد تعليقات