البشائر النبـوية للأعمـال الخيرية (16) من الإيمان رحمة العامة
عن أبي موسى - رضي الله عنه -؛ أنَّه سمعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لنْ تُؤمِنوا حتَّى تَراحَموا». قالوا: يا رسولَ الله! كلُّنا رحيمٌ. قال: «إنَّه ليسَ برحْمَةِ أحدِكُم صاحِبَهُ، ولكنَّها رحمَةُ العامَّةِ». رواه الطبراني، ورواته رواة «الصحيح». الرحمة فضيلة محمودة وخُلُقٌ من الأخلاق الفاضلة، وصفة من الصفات الكاملة، التي وصف الله بها نفسه، وتفضل بها على عباده، وامتن بها على خلقه، والرحمة الشاملة الواسعة هي رحمة الله رب العالمين، فقد شملت جميع الكائنات وعمت كل الموجودات، فما من كائن إلا وهو يتفيأ ظلالها، وما من كائن إلا وهو يغرف من فيضها، قال - تعالى-: {وَرَحْمَتِيْ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (الأعراف:156).
أساس كل خير ومفتاحه
والرحمةَ هي أساس ومفتاح كل خير؛ فقد وضع لها النبي - صلى الله عليه وسلم - دستوراً واضحاً وقانوناً ثابتاً، فقال: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ في الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ في السَّمَاءِ».
على المسلم أن يتمثل خلق الرحمة
وينبغي للمسلم أن يتمثل خلق الرحمة في تصرفه وعلاقاته، وأن يكون في الصورة المثلى والأسوة الحسنة في أقواله وأفعاله، وإلا كان النسمة تُضيء للناس وتحرق نفسها؛ فواجبه ألا يُرى حيث نهاه ربه، ولا يفقده ربه حيث أمره؛ فهو السابق للخيرات التقي النقي الذي ينأى بنفسه عن المنكرات والموبقات.
رحمةٌ تسع عامة الناس
وليس المطلوب من المسلم أن يقصِر الرحمة على خاصة من الناس، ولكنها رحمةٌ تسع عامة الناس، فبالرحمة تجتمع القلوب، وتتآلف النفوس ويشيع التراحم، والتعاطف والتعاون بين جميع أفراد المجتمع، حتى يكون مجتمعاً رحيماً متراحماً ينطبق عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».
إشاعة خلق الرحمة والتراحم
وما أحوجنا إلى إشاعة خلق الرحمة والتراحم في المجتمع!؛ فالقلوب العامرة بالرحمة والشفقة تثمر سكينة وطمأنينة، وتبني مجتمعا متعاطفا متكافلا، تسوده المحبة والمودة والأمان، كما أن القلوب القاسية الغليظة تمزق المجتمع، وتزلزل أركانه، وتنشر الظلم والشقاء والاعتداء على حقوق الناس، بل إن أكثر مشكلات المجتمع بمختلف أنواعها ناجمة عن ضعف الرحمة في القلوب وبين الناس، قال - صلى الله عليه وسلم -: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء» رواه أبو داود.
رحمة للعالمين
ويعبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن رحمته التي جاء بها للناس أجمعين بقوله: «إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقحمون فيها». رواه البخاري، فعامة الناس بحاجة إلى الرحمة والرعاية، وحياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الناس وهديه الذي تركه للبشرية كانت كذلك، فما غضب لنفسه قط، ووسع الناسَ حلمُهُ ورحمته وعطاؤه، وما من أحد عاشره أو عامله إلا امتلأ قلبه بحبه.
الرحمة بالفقراء والمحتاجين
ومن التراحم للعامة الرحمة بالفقراء والمحتاجين والضعفاء والأرامل والأيتام؛ فلقد كانت رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الفئة رحمةً نافعة لا تمييز فيها، رحمة جالبة لكل خير، تستهدف إسعادهم سعادة حقيقية لا زيف فيها ولا تزوير؛ حيث كان يأتي ضعفاءهم ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم.
الرحمة بالعصاة والمذنبين
ومن مجالات الرحمة، الرحمة بالعصاة والمذنبين؛ فإنهم يحتاجون إلى رحمة التوجيه والهداية لطاعة الله، فالمذنبون عليك أن ترحمهم وأن تأخذ بمجامع قلوبهم فتدلهم على رحمة الله، وتحببهم في طاعة الله ومرضاته ورحمته، وهذا من أعظم مجالات الرحمة وأجلها، أن تحرص على هداية العصاة المذنبين وإصلاحهم، تفعل ذلك وأنت تتمثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنا رحمة مهداة».
فإذا أردت يا من تعمل الخيرات أن يرق قلبُك وتُثَقلَ موازينك يوم القيامة، فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم، وهي وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل شكا إليه قسوة قلبه، فقال له: «إن أردت أن يلين قلبك فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم».
الرحمة سمة الإسلام
وإذا كانت الرحمة سمة الإسلام وخلق أهله فإن الفظاظة والغلظة والقسوة من الرذائل التي يمقتها الإسلام بما يصيب المجتمعات منها من التفكك والكراهية وإثارة روح العداء والبغضاء والحقد والشحناء وآثار ذلك في محيط الأسرة من التخريب والتدمير لكل القيم والأعراف المحمودة، وثم فإن هؤلاء لا يستأهلون أن يرحمهم الرحمن وهو القائل: {إنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيْبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِيْنَ} سورة الأعراف - آية: 56، والرسول الكريم -[- يقول: «من لايرحم الناس لايرحمه الله» الشيخان والترمذي.. كما يقول: «لا تنزع الرحمة إلا من شقي» أبوداوود والترمذي ويقول للأعرابي الذي قال إنكم تقبلون الصبيان وما نقبلهم.. «وما أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك».. البخاري.
وعليه فإن الرحمة لا تكون بالعطاء فحسب، بل هي في الحنان المتدفق والبسمة الحانية، والقول الكريم وتحمل الأذى والتجاوز عن الآخر، بل هي في كف الظالم عن ظلمه وبذل النصح للمخطئ والتواصي بالحق والصبر.
من فوائد الحديث
1- خلق الرحمة والتراحم خلق عظيم وجليل من أخلاق هذا الدين، وهو من أخلاق الأنبياء والمرسلين، وسمة من سمات عباد الله الصالحين.
2- مجال الرحمة في ديننا واسع لا حدود له؛ إذ لها مجالات وجوانب شتى في حياة كل إنسان.
3- أنَّ الذي يعمل في الشأن العامّ من منطلق التراحُم، فإنَّ ذلك علامة على إيمانِه كلّما زاد منسوبُ الاحتساب لديه، وصحّت نيّته.
4- والرحمة في القطاع الخيري مغايِرٌ لرحمةِ الأفرادِ بعضهم بعضاً وأفضل منه؛ لعموم النّفع والفضل الذي فيه.
5- في الحديث الحث على الرحمة العامة للناس كافة، فلا يخص المسلم بها من يعرفه ويرق له قلبه، لرحم بينه وبينه، أو صحبة، أو زمالة، أو غير ذلك.
6- والرحمة لا تقتصر على لين القول والابتسامة وإنما بالوقوف على قضاء الحاجات ومساعدة أهل العوز والضعف.
7- دائرة الرحمة تتسع لتشمل عامة الناس، وقد جعلها نبينا الكريم من شروط الإيمان.
لاتوجد تعليقات