البشائر النبـوية للأعمـال الخيرية (15) النجاة من كرب يوم القيامة
عَنْ عبداللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ». رواه مسلم، التعاون على البر والتقوى أصل من أصول الدين، تجتمع فيه المكارم كلها، وتلتقي عنده جميع أصول الأخلاق، وتجتمع عليه جميع القلوب المؤمنة؛ يقول الله -عز وجل-: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } (سورة المائدة: 2).
جاء في معنى الحديث أنَّ «من سَرَّهُ» أي: أفرحه وأعجبه، «أَن يُنَجِّيَه الله من كَرْبِ يوم القيامة» أي يخلِّصُه من شَدائد ومِحَن يوم القيامة، فَلْيُنَفِّسْ عن مُعْسِر»: أي يؤخر مطالبته بالدَّين عند حلول أجله ويفسح له في الأجل إلى أن يَجد ما يقضي به الدَّيْن. «أو يَضَعْ عنه»: أي يسامحه بالدَّين الذي عليه، كله أو بعضه.
سد الحاجات وتنفيس الكرب
والعمل الخيري بمؤسساته وأفراده يسد حاجات أهل العوز وينفس الكرب عن المعسرين، وهذا دور أساس؛ فالدين إنما أنزله الله -تعالى- لدعوة الناس إلى عبادة الله -عز وجل-، ولمصالح الناس في العاجل والآجل، ومصالح الناس تتمثل في أمرين أساسين هما: دفع المفاسد، وجلب المنافع، والناس للناس، لا غنى لأحد منهم عن الآخر؛ فإن بعضهم ظهير لبعض مهما تباعدت بهم الأقطار.
يقول الشاعر:
الناس للناس ما دام الحيـاءُ بهــم
والعسر واليسر ساعات وأوقات
لا تقطعن يد المعروف عن أحد
ما دمت تقدر والأيام تارات
فمن نفس عن معسر بشيء من ماله لسد حاجته وإدخال السرور عليه وإشعاره بأنه ليس وحده في هذه الحياة، مبتغياً بذلك وجه الله -تعالى- فإن الله -عز وجل- ينفس عنه بتنفيس هذه الكرب كرباً كثيرة؛ بناء على أن الحسنة بعشر أمثالها مع مضاعفتها بقدر الإخلاص فيها.
ويقول الله -عز وجل-: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (سورة البقرة: 245)، ويقول -جل شأنه-: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (سورة البقرة: 265). ولا فرق بين من يعطي المعسر ما يسد به حاجته ومن يَحُطُّ عنه دينه كله أو بعضه أو ينظره إلى ميسرة. يقول الله -عز وجل-: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (سورة البقرة: 280).
من أنظر معسرًا
ولا شك أن من أنظر المعسر إلى حين ميسرة يكون من ذوي المروءات حقا، وأهل المروءة هم أهل السخاء والجود والكرم، وإن كان العبد كريماً فإن الله أكرم {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} (سورة الرعد: 8)، ومن تجاوز عن معسر تجاوز الله عنه يوم القيامة. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ؛ لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا، فَلَقِيَ اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ».
وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ شَيْءٌ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ، وَكَانَ مُوسِرًا، وَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنْ الْمُعْسِرِ. قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ، تَجَاوَزُوا عَنْهُ».
وقوله - صلى الله عليه وسلم-: «أَوْ يَضَعْ عَنْهُ» لا يقتصر على التجاوز عن الديون كلها أو بعضها فحسب، ولكنه يتعدى إلى كل حق يستحب للإنسان في بعض الأحوال أن يتجاوز عنه؛ تحلماً وتكرماً، كأن يتجاوز عن سبه له، أو أخذه شيئاً من ماله بغير حق، أو الكيد له والتقصير في تأدية واجبه نحوه، إلى غير ذلك من الأمور التي يتسحب فيها العفو والصفح.
قال المناوي -رحمه الله تعالى- في فضل إنظار المعسر: «لأن الإعسار من أعظم كرب الدنيا، بل هو أعظمها؛ فجوزي من نفس عن أحد من عيال المعسرين بتفريج أعظم كرب الآخرة وهو هول الموقف وشدائده، بالإزاحة من ذلك ورفعته إلى أشرف المقامات، ثم قالوا وقد يكون ثواب المندوب أكمل من ثواب الواجب». (فيض القدير 6/303).
الجزاء من جنس العمل
والجزاء من جنس العمل، عَنْ عبداللَّهِ بْنِ عَمْرِو -رضي الله عنهما- عن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ» رواه أحمد (6494) وقال: حديث حسن صحيح، قال الضحاك رحمه الله تعالى: من كان ذا عسرة فنظرة إلى ميسرة وكذلك كل دين على المسلم فلا يحل لمسلم له دين على أخيه يعلم منه عسرة أن يسجنه ولا يطلبه حتى ييسره الله عليه وأن تصدقوا برؤوس أموالكم يعني على المعسر خير لكم من نظرة إلى ميسرة فاختار الله الصدقة على النظارة.
وكان النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- من أكرم الناس على المعسر، ومن أحلمهم على مخطئ، ومن أشدهم عفواً على مسيء، وكان أصحابه من أشد الناس محاكاة له في خلقه الفاضل وسلوكه النبيل، وكان التابعون لهم يحذون حذوهم بقدر طاقتهم؛ ليلحقوا بهم.
من فوائد الحديث
- الجزاء من جِنس العمل
- إنظار المعسر من مكارم الأخلاق، وأفضل منه التجاوز عنه.
- سد حاجات المعسرين من نعم الله -تعالى- على عباده.
- الشرع الحكيم رحمة من الله لعباده.
لاتوجد تعليقات