رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 11 أبريل، 2023 0 تعليق

البشائر النبـوية للأعمـال الخيرية (14)  سد الحاجات والإعانة على الطاعات

عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من عبد أنعم الله عليه نعمة فأسبغها عليه ثم جعل من حوائج الناس إليه، فتبرم، فقد عرض تلك النعمة للزوال»، والمتبرم هو: كل صاحب نعمة أدت إلى أن يؤول الناس إليه بسببها، كالعالم والمفتي والداعية والمربي والأمير والقاضي، والمسؤول والطبيب والمحامي والتاجر والغني، ونحوهم من أفراد المجتمع ممن أنعم الله عليهم بنعم جعلت لهم مكانة أو سلطة في المجتمع، أوفيها نفع متعدي لغيرهم من الناس»، فمثل هؤلاء إذا تذمروا وتأففوا، وضاقوا ذرعاً بالخلق بعد أن صارت حاجة الناس إليهم، وتكبروا عليهم وأعرضوا عنهم، وسئموا ذلك وتضجروا منه، فإنهم معرّضون لزوال هذا الفضل عنهم.

إذا أحب الله عبداً جعل حوائج الناس إليه

      فإذا أحب الله عبداً، جعل حوائج الناس إليه، فاعلم إن كنت مقصوداً، إذا أقبل الناس عليك، إذا توسموا فيك الخير، إذا عقدوا عليك آمالهم، إذا رجوا نوالك، فأنت ممن يحبك الله، أما إذا انصرف الناس عنك، وانفضوا ويئسوا منك، وأسقطوك من حساباتهم، وتركوك، فأنت ممن لا يحبهم الله -عز وجل-، فهناك إنسان يعيش للآخرين، وآخر يسخر الآخرين له، وشتان بين الاثنين.

من يفعل الخيرَ لا يعدم جوازيه

                                                                                       لا يذهبُ العرفُ بين الله والناسِ

     والتحذير الوارد في الحديث يدخل في عموم قول الله -تعالى-: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال:53) وقوله جل جلاله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} ( الرعد:11)، قال البغوي في تفسير الآية الأولى: أراد أن الله -تعالى- لا يغير ما أنعم على قوم حتى يغيروا هم ما بهم بالكفران وترك الشكر، فإذا فعلوا ذلك غيّر الله ما بهم فسلبهم النعمة. وقال -تعالى-: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم} (محمد:38).

تخويف وتنبيه

     قال القرطبي -رحمه الله-: «وفي الآية تخويف وتنبيه لجميع من كانت له ولاية وإمارة ورياسة، فلا يعدل في رعيته أو كان عالماً فلا يعمل بعلمه ولا ينصح الناس، أن يذهبه ويأتي بغيره، وكان الله على ذلك قديراً». نعوذ بالله من الحَوْرِ بعد الكَوْر، ومن النقصان بعد الزيادة.

     إن هذا الحديث برواياته تذكرة وتحذير لكل من أنعم الله عليه وأولاه من المكانة المادية أو المعنوية، وجعله متميزاً عن كثير من خلقه، وخصه بهذه المنقبة وتلك المزية -التي جعلت من حوائج الناس إليه-؛ لذا فإنه يجب عليه أمور عدة:

ابتلاء من الله -عزوجل

- أولاً: أن يعلم بأن هذه النعمة وهذا المنصب أو هذا العلم أو هذه المكانة التي بوأه الله إياها، ابتلاء من الله -عز وجل- ليرى ماذا يصنع؛ لأن الدنيا بما فيها من هذه النعم محل ابتلاء واختبار، قال عز وجل {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} (الإنسان:2-3)، فإما أن يؤدي ما عليه من واجب الشكر أو أن يكفر ويجحد وهكذا حال الناس في الدنيا.

المرء قليلٌ بنفسه كثير بإخوانه

- ثانياً: إن المسلم مهما علا وارتفع فإنه قليلٌ بنفسه، كثيرٌ بإخوانه، وإن تَبَرُّمه من أفراد مجتمعه فيه من تشتيت للأواصر وإيغار للصدور ما لا يخفى ضرره العاجل والآجل، فإن له في نفس الوقت ذلك الأثر السيئ والعكسي بتعرضه لخطر زوال النعمة عنه، ومن ثم شماتة الأعداء به.

احتساب الأجر

- ثالثاً: احتساب الأجر يوم العرض على الله: فكما حذرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - من زوال النعمة، فقد رغّبَنا في فضل قضاء حوائج الناس والوقوف عليها والسعي من أجلها، كما ثبت في صحيح مسلم من طريق أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» الحديث.

فلنتدارك النعم قبل فوات الأوان

      فلنتدارك النعم قبل فوات الأوان؛ بتقوى الله وحسن العمل ومراعاة الخلق، واستدراك ما فات من التقصير في حق الله وحق الناس والأهل والإخوان، والحذر من الإعراض عنهم والاغترار بالنفس التي اكتست برداء الكبرياء، الذي لا ينبغي إلا للخالق العظيم كما جاء في الحديث القدسي: «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ». رواه أبو داود وصححه الألباني، ومما ثبت في السنة ما جاء في الأدب المفرد عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كان من دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك وجميع سخطك».

      وموسى -عليه السلام- لَما ورد ماء مدين وجد عليه أمةً من الناس يسقون، ووجد من دونهم امرأتين مستضعفتين، فرفع الحجر عن البئر وسقى لهما حتى رُويت أغنامهما.

المثل الأعلى والنموذج الأرقى

     بل إن حبيبنا النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب المثل الأعلى والنموذج الأرقى في الحرص على الخير والبر والإحسان، وفي سَعيه لقضاءِ حوائج الناس، ولاسيما الضعفاء والأيتام، والأرامل والفقراء والمحتاجين والمعدمين، وها هي ذي خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- تقول في وصف نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - «إنك لتصلُ الرحم، وتحملُ الكل، وتُكسبُ المعدوم، وتُقري الضيف، وتُعينُ على نوائبِ الحق»، وكان أشرفُ الخلق محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - إذا سُئل عن حاجة، لم يرد السائلَ عن حاجته، يقول جابر - رضس الله عنه -: ما سئل رسول الله شيئًا قط فقال: لا.

أبو بكر الصديق - رضي الله عنه 

     وعلى هذا النهج القويم سار الصحابة الكرام والصالحون رضوان الله عليهم في قضاء الحوائج، فهذا خيرُ الأمةِ بعد نبيها الصديق أبو بكر - رضي الله عنه - كان يواظبُ على خدمةِ عجوزٍ مقعدة، وبعد أن وَلِيَ الخلافة ذهب عمر - رضي الله عنه - لقضاء حوائجها، ظانًّا أن أبا بكر ستشغله الخلافة ولو بشكلٍ مؤقت عن ذلك العمل، فإذا به يجد أن الخليفة قد سبقه لذلك، بل إنه - رضي الله عنه - أسلم وله أربعون ألفًا، فأنفقها في سبيل الله، وأعتقَ سبعة كلهم يُعذَّبُ في سبيل الله، أعتقَ بلالًا، وعامر بن فهيرة، وزنبرة، والنَّهدية وابنتها، وجارية ابن مؤمل، وأمُ عبيس.

عمر بن الخطاب - رضي الله عنه 

     وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يتعاهدُ الأرامل يسقي لهنَّ الماء ليلًا، بل إن الفاروق عمر - رضي الله عنه - وهو خليفة، وُجِدَ وهو يعِسُّ بالليلِ امرأةً في حالةِ المخاض تُعاني من آلامِ الولادة، فحث زوجته على قضاءِ حاجتها وكَسْبِ أجرها، فكانت هي تُمرِض المرأة في الداخل وهو في الخارج ينهمك في إنضاجِ الطعام بالنفخِ على الحطب تحت القدر، حتى يتخلل الدخان لحيته، وتفيض عيناه بالدمع لا من أثر الدخان الكثيف فحسب، بل شكرٌ لله أن هيَّأه وزوجته لقضاءِ حوائج الناس.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك