رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.جمال المراكبي 10 مارس، 2020 0 تعليق

الاعتبـــار بآيات اللـه

 

 

إن الله -سبحانه وتعالى- قوي قاهر، الأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، وهو غالب على أمره، يفعل ما يشاء، لا يعجزه شيء، كثرت جنوده وآياته لا يعلمها إلا هو؛ فيرسل بالآيات بركة وعبرة للمؤمنين، وتخويفا وإنذارًا للكافرين، وهو على كل ذلك حكيم عليم.

  

     والآيات: جمع آية وهي العلامة، منها ما هو مألوف ومعتاد كقوله -تعالى-: {ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين}(الروم:22)، وقوله -تعالى-: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا..}(الروم:20)، وقوله -تعالى-: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق...}(فصلت:53).

دلالة على التوحيد

     قال الزجاج: معناه: نريهم الآيات التي تدل على التوحيد في الآفاق، أي: آثار من مضى قبلهم من خلق الله -عز وجل- في كل البلاد، وفي أنفسهم من أنهم كانوا نطفًا ثم علقًا ثم مُضغًا ثم عظامًا كسيت لحمًا ثم إلى التمييز والعقل؛ وذلك كله دليل على أن الذي فعله واحد ليس كمثله شيء تبارك وتقدس.

     قلت: قد فسّر الآيات في الآفاق بآثار من مضى في البلاد، والآية تحتمل معنى سنريهم (في المستقبل) من الآيات ما يدل على أن القرآن حق من عند الله الخالق -جلّ وعلا-، وعلى هذا المعنى بنى أصحاب منهج الإعجاز مذهبهم في الإعجاز العلمي في القرآن، ومن الآيات الكونية الباهرة الدالة على قدرة الله ووحدانيته، كذلك ما هو غير مألوف ولا معتاد، كقوله -تعالى-: {وجعلنا ابن مريم وأمه آية...}(المؤمنون:50)، وقوله -تعالى-: { وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس..}(البقرة:259).

صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم

والآية من القرآن: علامة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإعجاز يتحدى الله -عز وجل- به الإنس والجن، كقوله -تعالى-: {تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق..} (البقرة:252)، وقوله -تعالى-: {تلك آيات الكتاب الحكيم}(يونس:1).

موقف المؤمنين

     وآيات الله المبثوثة في كتاب الكون المفتوح دعوة للتدبر والتأمل فيها، قال -تعالى-: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب}(ق:5- 8)، يتأمل فيها المؤمن عظيم تدبير الخلاق العليم؛ فإن عِظم آثاره وأفعاله دليل على عظمة الخالق وجلاله؛ فتمتلئ القلوب له إعظامًا وإجلالا؛ فتستغرق الألسنة في ذكره والأبدان في طاعته والقلوب في التفكر في دلائل عظمته؛ فتتعلق القلوب به ذاكرة لاهجة منيبة خاضعة.

     {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب (190) الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار (191) ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار}(آل عمران:190- 192).

     ثم يُعمِل المؤمن الذي اهتدى بنور الله -عزوجل- عقله بالتدبر، كيف يتحقق له من وراء تأمله في آيات ربه وسائل تحقق له الراحة والسعادة في معيشته، تكون ثمرة لهذا التأمل يزداد بالعلم بها إيمانًا ويقينًا، وبتسخير الله -عز وجل- له إياها شكرًا لله -عز وجل- وذكرا.

أهل الضلال والغفلة

     بينما يمر أهل الضلال والغفلة على آيات ربهم معرضين، ليس لهم في التأمل نصيب، وإذا تأملوا اكتفوا بظاهر الآية دون أن يصلوا بها إلى الإيمان بخالقها، قال -تعالى-: {وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون (105) وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون (106) أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون}(يوسف:105- 107)، ثم إذا تبدلت نواميس الآيات المألوفة؛ فتزلزلت الأرض الراسية، وطغى الماء حتى تفجرت البحار وأغرقت السهول والوديان، إن في ذلك ما يوقظ القلوب الغافلة، ويثير مشاعر الخوف والخشية من الجبار القهار ذي البطش الشديد، الفعال لما يريد، ويقوي في القلوب عبودية التسليم لمن بيده مقاليد الأمور.

الآيات مسخرة تسجد لربها

     قال -تعالى-: {ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة..}(النحل:49)، وقال -تعالى-: ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم}(الرعد:15)، وقال -تعالى-: {ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض...}(الحج:18)، وقالصلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس: «أتدري أين تذهب»؟ قال أبو ذر: الله ورسوله أعلم، قال صلى الله عليه وسلم: «فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيُؤْذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها، ويقال لها ارجعي من حيث جئتِ؛ فتطلع من مغربها؛ فذلك قوله -تعالى-: {والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم}(يس:38)». (البخاري).

وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا

     عن أبي موسى رضي الله عنه  عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما كسفت الشمس: «هذه الآيات التي يُرسل الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن يخوّف الله بها عباده..». (خ (1059) م (912)، قال الحافظ ابن حجر: «قوله يُخوف: فيه ردّ على من يزعم من أهل الهيئة أن الكسوف أمر عادي لا يتأخر ولا يتقدم؛ إذ لو كان كما يقولون لم يكن في ذلك تخويف». (فتح الباري: (2- 624)، قال ابن دقيق العيد: ينبغي الخوف عند وقوع التغيرات العلوية، وقال قتادة: «إن الله -تعالى- يخوف الناس بما شاء من الآيات لعلهم يعتبرون ويذكّرون ويرجعون»(تفسير ابن كثير).

قلوب الموحدين

     قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والزلازل من الآيات التي يخوف الله بها عباده كما يخوفهم بالكسوف وغيره من الآيات، والحوادث لها أسباب وحِكم فكونها آية يُخوف الله -عز وجل- بها عباده هي من حكمة ذلك، وأما أسبابه فانضغاط البخار في جوف الأرض كما ينضغط الريح والماء في المكان الضيق؛ فإذا انضغط طلب مخرجًا، فيشق ويزلزل ما هرب منه من الأرض»؛ ولهذا تجد قلوب الموحدين إذا تغير شيء من ظواهر الكون المعتادة ونواميسه المعهودة، يثور عندهم الخوف والوجل لقوة اعتقادهم في وحدانية ربهم مدبرًا لشئون خلقه، ما شاء وحده كان دون أن يُعجزه شيء، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كانت الريح الشديدة إذا هبّت عُرف ذلك في وجه النبي صلى الله عليه وسلم »(البخاري (1034)، وقالت عائشة -رضي الله عنها- كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى مِخيلَة في السماء أقبل وأدبر، ودخل وخرج وتغير وجهه؛ فإذا أمطرت السماء سُرِّي عنه؛ فعرّفته عائشة ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وما أدري لعله كما قال قوم عاد: فلما رأوه عارضًا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا.... أليم» (البخاري (3206) م (899).

إشارة للمسلم

     قال ابن حجر -رحمه الله-: وتأمل معي حال القلوب عند وقوع الآيات وقد دب فيها الخوف والهلع وحالها بعد انكشاف الضُّر؛ ففيه إشارة للمسلم وتنبيه له على سلوك طريق الخوف والرجاء. ا.هـ (فتح الباري (6- 619)؛ لذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم على الذكر والدعاء والصدقة والعتق والفزع إلى الصلاة عند نزول تلك الآيات، فقال صلى الله عليه وسلم : «فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره». (البخاري)، وقال في الحديث الذي رواه ابن مسعود: «فافزعوا إلى الصلاة فإنها إن كانت التي تحذرون كانت وأنتم على غير غفلة، وإن لم تكن قد أصبتم خيرًا». (مسند أحمد).

النهي عن طلب الآيات

     طلب الخوارق والمعجزات من شأن أهل الباطل الذين لن ينتفعوا بها، ولا تزيدهم إلا عتوًا وعنادًا وإعراضًا عند ربهم؛ لأنها لا يطلبها إلا متعنت مكابر معاند، قال -تعالى-: {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا}(الإسراء:59)، روى أحمد في مسنده (13644) بإسناده عن جابر قال: لما مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحِجر قال: «لا تسألوا الآيات وقد سألها قوم صالح فكانت تَرِدُ (أي الناقة) من هذا الفج وتصدر من هذا الفج فعتوا عن أمر ربهم فعقروها؛ فكانت تشرب ماءهم يومًا ويشربون لبنها يومًا فعقروها فأخذتهم صيحة أهمد الله -عز وجل- من تحت أديم السماء منهم..» الحديث.

من حكم إرسال الآيات الكونية

     تأتى الآيات تخويفًا للمسلمين ممن شاء الله -عز وجل- ردعهم من الغافلين وذلك بذنوبهم وما كسبت أيديهم؛ فالذي أهلك بها أقوامًا أعرضوا عن الله -تعالى- قادر على أن يهلك بها الآخرين من المعرضين، قال -تعالى-: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}(الشورى:30).

تطهيرًا للمؤمنين

وتأتي الآيات تطهيرًا للمؤمنين ورحمة من الله بهم: عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «أمتي هذه أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة، وعذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل». (أبو داود (4278) الصحيحة (959).

بركة للمؤمنين

     ومن الآيات ما هو بركة للمؤمنين: سمع عبد الله بن مسعود بخسف، فقال: كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفا، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقلَّ الماء، فقال: اطلبوا فضلة من ماء؛ فجاءوا بإناء فيه ماء قليل؛ فأدخل يده في الإناء ثم قال: «حي على الطهور المبارك والبركة من الله؛ فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل». (البخاري (3579)؛ فانظر إلى الآيات وخوارق العادات؛ فإن منها بركات وخيرات من الرحمن على أهل الإيمان، ولا تنظر إليها على أنها عذاب أو نكال بالمكذبين فحسب.

هلاكًا للكافرين

     وتأتي الآيات هلاكًا للكافرين وتدميرًا لهم على تمردهم وطغيانهم وسوط عذاب الله -تعالى- عليهم، قال -تعالى-: {فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} (العنكبوت:40)، وكم خوّفهم الله -تعالى- من نزول تلك الآيات بهم ولكنهم زادوا في طغيانهم، قال -تعالى-: {ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا}(الإسراء:60).

تذكيرًا بأهوال يوم القيامة

     وتأتي الآيات تذكيرًا بأهوال يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم الرجفة، يوم الزلزلة، يوم القارعة؛ فالأرض تُزلزل، والجبال تُنسف وتُسيّر، والبحار تُفجّر، والسماء تمور، والشمس تَذهب فتُكوّر وكثرة الآيات التي تتبدل فيها النواميس المعهودة التي أودعها الله -عز وجل- في كونه من أشراط وعلامات قرب الساعة. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يُقبض العلم وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن ويكثر الهرْج (وهو القتل) وحتى يكثر فيكم المال فيفيض»(البخاري (1036)، ثم تأتي آيات تأذن بقيام الساعة وانقطاع التوبة.

فهل آن الأوان؟

     فهل آن الأوان للعود الحميد إلى الله المجيد الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات؟ قال -تعالى-: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم (1) يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد}(الحج:1-2).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك