الإلحاد الجديد في العالم العربي (2)
ما زال الحديث موصولا عن أسباب الإلحاد الجديد في العالم العربي، وقلنا: إن هذه الأسباب التي تدفع الشباب العربي للوقوع في الإلحاد تنقسم إلى أسباب شخصية واجتماعية ومعرفية، وتحدثنا في المقال السابق عن الأسباب الشخصية واليوم نتناول الأسباب الاجتماعية.
الأسباب الاجتماعية تنبع من المجتمع المحيط بالملحد في الأسرة والمدرسة والجامعة والعمل والأصحاب..الخ، ونذكر منها ما يلي:
(1) ضعف الدين والمناعة المجتمعية
والمقصود بهذا هو انخفاض مستوى التدين في المجتمع بشكل لا يوفر لأفراده المناعة أو الحصانة ضد الأفكار المخالفة بما فيها الإلحاد وأطروحاته. وهذا الانخفاض في التدين قد يكون على صورتين: انخفاض مستوى العلم بالدين والتفقه فيه بين الناس؛ وانخفاض مستوى الالتزام بالطاعات ومراقبة الله في الأفعال والسلوكيات بين عوام الناس. في مثل هذا المجتمع الهش دينيًا يسهل على أفكار الإلحاد أن تتسرب بيسر إلى عقول الشباب وقلوبهم الذين لم ينشؤوا على علم بالدين أو استحضار مراقبة الله في سلوكياتهم.
غياب الحصانة الحقيقية
ولا يعني هذا الكلام أن أبناء الأسر المتدينة سيكونون محصنين ضد خطر الإلحاد والانحراف، بل الواقع أنه إذا كان المجتمع الخارجي في عمومه متحجرًا دينيًا وغير قادرٍ على مواجهة الأفكار المنحرفة ويسود فيه الجهل بالدين وعدم الالتزام به عمليًا وسلوكيًا، فليس هناك حصانة حقيقية فعلية لأبناء الأسر المتدينة، بل هم عرضة للوقوع في الإلحاد وسائر الانحرافات كغيرهم.
المقصود بالجمود
والمقصود بالجمود أو التحجر الديني هو عدم تطور أدوات الخطاب الشرعي وصياغاته لتواكب الأطروحات الثقافية والعلمية الجديدة والتحديات التي يفرضها العصر والأوضاع الاجتماعية المستحدثة لكثير من الفئات المجتمعية، ولا يُقصد بهذا التطور تبديل الدين أو تغييره ليناسب الأفكار الدخيلة عليه.
(2) كبت أسئلة الشباب
بعض الأسر أو المجتمعات تمارس نوعًا عجيبًا من القهر على أبنائها فتمنعهم من طرح الأسئلة أو الاستشكال، وتهددهم بأن مجرد طرحها يعني الكفر والمروق من الدين، أو قد يقابلون أسئلة الشاب أو استشكالاته بالسخرية والتهكم والاستهزاء مما يدفعه لكتمانها صيانةً لمروءته وكرامته من الامتهان.
تضخم قوة الشبهات
هذه الممارسة لكبت أسئلة الشباب تدفعهم للتفكير في أن الإسلام نفسه لا يملك أجوبة عن التساؤلات، وأنه يكبتها ويحرّمها حتى لا يقع الدين في الإحراج، وبالتالي تتضخم قوة هذه الاستشكالات والشبهات في ذهن الشاب إلى درجة تفوق حجمها الحقيقي ويظن أن الإسلام دين ضعيف لا يملك أجوبة ولا حلولاً لأسئلته حتى تصبح في نهاية المطاف السبب في إلحاده وتركه للإسلام بالكلية.
(3) اضطهاد المرأة
هذا من أبرز أسباب الإلحاد وأكبره بين الفتيات ولا سيما أن دعاة الإلحاد يستهدفون المرأة بدعاياتهم الإلحادية بزعم التحرر من سلطة الآباء وقهر الذكور وغيرها من الشعارات، فإذا انضمت إلى هذه الدعاية ما تلاقيه المرأة من اضطهاد وظلم وقهر في مجتمعها أو أسرتها كان هذا داعيًا قويًا للوقوع في فخ الإلحاد.
(4) تخلف الأمة
وهذا قد يعد من أسباب الإلحاد في المجتمعات المتخلفة حضاريًا إذا رُبط بين هذا التخلف والدين؛ فعندما يقارن الشباب المنبهر بالغرب بين تقدم الغربيين الكفار وتحضرهم وترقيهم في مدارج العلوم والحكمة، وبين تخلف بني قومه من المسلمين وتأخرهم وانحطاطهم قد تكون هذه المقارنة دافعًا له لفقدان الثقة في قدرة الإسلام على تحقيق التقدم والنهضة، ومن ثم الكفر به بالكلية.
وفي بعض الأحيان تكون الأمة - أي أمة - في محنة اقتصادية أو اجتماعية ويتم طرح حلول لهذه المحنة ويتطلع أفراد الشعب لهذه الحلول على أنها الأمل في إنهاء الأزمة والخروج من عنق الزجاجة، ثم يقوم رجال الدين برفض هذه الحلول لأنها مخالفة للدين أو متضمنة للكفر أو غيره من الأسباب، فيكون هذا الأمر من أسباب تفشي الإلحاد في هذه الأمة كما حدث في أوروبا في عصور النهضة والتنوير.
(5) تمزق الأمة وتفرقها
وهذه من أسباب الفتنة بين الشباب غير القادر على تمييز الحق من الباطل في هذه الأشلاء، فيقع في حيرة كيف يرضى الله الحكيم الرحيم؟ أو أن يكون الدين سببًا في كل هذا التنافر والتناحر بين أبنائه مما يؤدي به في نهاية المطاف إلى الكفر بالله والإلحاد.
ثالثًا: الأسباب المعرفية
وهي المتعلقة بالعلم والمعرفة والشبهات، وأفضل من تكلم عنها د. الطيب بوعزة الفيلسوف الأكاديمي المغربي في مداخلة ببرنامج حوارات نماء مع الدكتور عبد الله القرشي وعبد الله العجيري وعبد الله الشهري بتاريخ 10 رجب 1434 هجرية؛ حيث ذكر أسباب الإلحاد النفسية والمعرفية، وعند ذكر الأسباب المعرفية أوجزها في الآتي:
(1) ضعف المكتبة العربية الإسلامية وفقرها في نقد الإلحاد الجديد، فيجد الشباب المتشكك والمتسائل نفسه في العراء، وفي المقابل هناك وفرة في المواد الإلحادية مكتوبة أو مرئية بشكل يجعل المعادلة تميل بشدة لصالح الإلحاد.
(2) اعتماد العلماء على صياغات كلامية قديمة بائدة لا يفهمها العوام بينما الشبهات معروضة بصياغات يسيرة قريبة للفهم.
(3) رفض بعض العلماء التصنيف في الرد على الشبهات، فعندما يبحث الشباب عن ردود على الشبهات التي تحاصره لا يجد، من ثم يظن أنه لا توجد ردود ولا إجابات، فيفقد ثقته في قدرة الإسلام على مواجهة الإشكالات والتساؤلات مما يؤدي في نهاية المطاف إلى الوقوع في الإلحاد.
وهذه الأسباب المعرفية للسقوط في الإلحاد تضم أيضًا شبهات كثيرة أهمهما:
- وجود الشر في العالم.
- القتل والحروب باسم الدين.
- شبهات حول القضاء والقدر.
- شبهات حول الحكمة الإلهية في الخلق.
المتاجرة بالعلم
لكن أهم هذه الأسباب المعرفية من وجهة نظري هو المتاجرة بالعلم لترويج الإلحاد؛ حيث يتم الترويج لنظرية التطور مثلاً على أنها حقيقة قطعية يقينية وأنها هي العلم الذي لا يقبل الخلاف، كما يتم الترويج للنظريات الحديثة في نشأة الكون خصوصًا على يد العالم الفيزيائي الأشهر ستيفن هوكينج. فإذا تعارضت هذه النظريات مع الدين كان هذا دليلاً عند القوم على بطلان الدين وخرافاته، وهذا هو التحدي الأكبر الذي يواجه الإسلام الآن؛ مواجهة هذه النظريات العلمية وتمحيصها وتمييز الحق من الباطل فيها وفق منهجية شرعية إسلامية عقلية سليمة.
خاتمة وتوصيات
في نهاية هذا المقال أجد أنه من المفيد أن أكتب توصيات مختصرة، حتى نتمكن من تحويل أفكارنا في مواجهة ملف الإلحاد إلى واقع فعلي.
(1) تفعيل دور المراكز البحثية لتناول أفكار الإلحاد وأطروحاته بالبحث والدراسة العميقين سواء على المستوى العلمي التجريبي أم المستوى الفلسفي على أيدي خبراء مختصين وباحثين مؤهلين تأهيلاً نوعيًا للخوض في هذه القضايا.
(2) نشر الأفكار وتيسيرها للعوام في الكتب والصحف والإعلام المكتوب والمرئي والمسموع والأفلام الوثائقية التاريخية والثقافية والعلمية والدروس الدينية والمحاضرات والندوات العامة.
(3) تفعيل الدعوة الفردية وتقديم الاستشارات الفكرية والتربوية والنفسية للشباب المتشكك وأصحاب التساؤلات وأهالي الملحدين وأصحابهم وزملائهم في العمل والدراسة وتوفير الدعم الفكري والنفسي عند اللزوم، وكذلك التدخل السريع للحوار مع الملحدين بغرض هدايتهم أو مناظرتهم عند اللزوم.
لاتوجد تعليقات