رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. أحمد بن مبارك المزروعي 20 يونيو، 2019 0 تعليق

الإفتاء والواقع المؤلم في بعض وسائل الإعلام (1)

 

إن التجرؤ على الفتوى له أخطار كبيرة، و يترتب عليه آثام عظيمة، ومفاسد جسيمة، ولقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- يتدافعون الفتوى كما قال ابن أبي ليلى -رحمه الله-: «أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسأل أحدهم عن المسألة، فيردّها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول، وما منهم من أحد يحدث بحديث، أو يسأل عن شيء، إلا ودّ أخاه كفاه».

     وقد ورث التابعون هذا الأدب العظيم فعن عمير بن سعيد قال: سألت علقمة عن مسألة، فقال: ائت عبيدة فاسأله، فأتيت عبيدة فقال: ائت علقمة، فقلت: علقمة أرسلني إليك، فقال: ائت مسروقًا فاسأله، فأتيت مسروقًا، فسألته فقال: ائت علقمة فاسأله، فقلت: علقمة أرسلني إلى عبيدة، وعبيدة أرسلني إليك، فقال: ائت عبد الرحمن بن أبي ليلى، فأتيت عبد الرحمن بن أبي ليلى، فسألته فكرهه، ثم رجعت إلى علقمة فأخبرته قال: كان يقال:  «أجرأ القوم على الفتيا أدناهم علمًا».

التكلم في دين الله

     ولم يكن هذا منهم فحسب، بل كان الواحد منهم يودّ أن لو قطع لسانه ولا يتكلم في دين الله بغير علم، وقد سُئل القاسم بن محمد بن أبي بكر عن شيء فقال -رحمه الله-: «لا أحسنه» فقال السائل: إني جئت إليك لا أعرف غيرك. فقال القاسم: «لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي والله ما أحسنه». فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: «يا ابن أخي الزمها، فو الله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم». فقال القاسم: «والله لأن يقطع لساني أحبّ إليّ من أن أتكلم بما لا علم لي».

حتى يستشير

     ولم يكن الواحد منهم يصدّر نفسه للفتوى حتى يستشير من هو أعلم منه فيشير عليه بذلك، وما أجمل ما قاله الإمام مالك -رحمه الله-: «ما أجبت في الفتوى حتى سألت من هو أعلم مني: هل يراني موضعًا لذلك؟ سألت ربيعة، وسألت يحيى بن سعيد، فأمراني بذلك، فقلت - أي خلف بن عمر- له: يا أبا عبد الله لو نهوك؟! قال: كنت أنتهي، لا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلًا لشيء حتى يسأل من هو أعلم منه»، وقد قارن الإمام مالك -رحمه الله- حال زمانه بحال زمان الصحابة الذين يتدافعون الفتوى فقال -رحمه الله-: «إذا كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصعب عليهم المسائل، ولا يجيب أحدهم في مسألة حتى يأخذ رأي صاحبه مع ما رزقوا من السداد والتوفيق مع الطهارة، فكيف بنا الذين غطّت الخطايا والذنوب قلوبنا»؟!.

أفضل القرون

     فأفضل القرون وأعمق الناس علماً وفهماً تهيبوا من الفتوى وتدافعوها، ولا يتصدر الواحد منهم للفتوى حتى يستشير ويؤذن له، بل إن الواحد يُفضّل قطع لسانه على أن يقول في دين الله ما لا يعلم، فواعجبًا كيف تجرأ بعض الناس في هذا الزمان على الفتيا في دين الله؟!! وكيف تهافتَ غير المتخصصين عبر وسائل الإعلام على الفتوى دون معرفة بالعلم وآداب الفتوى وضوابطها؟!

خطب جلل

إن هذا لأمر عظيم وخطب جلل، أبكى العلماء في القرون الأولى؛ فقد رأى رجلٌ ربيعةَ بن أبي عبد الرحمن يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: استُفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم ! قال: ولَبَعْضُ مَن يفتي هاهنا أحقّ بالسجن من السّراق».

كيف لو رأى زماننا؟

     قال ابن حمدان الحراني (695هـ) معلقاً على كلام ربيعة: «فكيف لو رأى زماننا وإقدام من لا علم عنده على الفتيا، مع قلة خبرته وسوء سيرته، وشؤم سريرته، وإنما قصده السمعة والرياء، ومماثلة الفضلاء والنبلاء والمشهورين المستورين والعلماء الراسخين والمتبحرين السابقين، ومع هذا فهم يُنهون فلا يَنتهون، ويُنبهون فلا يَنتبهون، قد أُملي لهم بانعكاف الجهال عليهم، وتركوا ما لهم في ذلك وما عليهم، فمن أقدم على ما ليس له أهلًا من فتيا أو قضاء أو تدريس أثم، فإن كان أكثرَ منه وأصرَّ واستمر فسَق، ولم يحلّ قبول قوله ولا فتياه ولا قضائه، هذا حكم دين الإسلام والسلام، ولا اعتبار لمن خالف هذا الصواب، فإنا لله وإنا إليه راجعون».

يلْبَس ثوب الشرع

     يقول هذا عن زمانه فكيف بزماننا الذي ظهر فيه من يلْبَس ثوب الشرع متملقاً بالعلم، مرونقاً كلامه به، متشبعاً بما لم يعطه، تراه عبر التلفاز يضرب أقوال العلماء بعضها ببعض مسقطاً منها ما لا يروق له، متسفهاً على الناس بأقواله وأفعاله، مرخصاً للناس ما لم يرخصْه الله، مائلاً إلى الدنيا في فتواه، صارفاً وجوه الناس إليه، ممارياً بفتواه العامّة، مباهياً بها العلماء والعقلاء، مسلطاً لسانه على أهل الحق مداهناً به أهل الباطل، قد أضرَّ بنفسه حيث أقحمها القول على الله بلا علم، وأفسد في مجتمعه بنشره هذا الهوى والجهل.

من أعظم المحرمات

     قال ابن بالقيم -رحمه الله-: «وقد حرم الله -سبحانه- القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء، وجعله من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها فقال -تعالى-:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}، فرتب المحرمات أربع مراتب وبدأ بأسهلها وهي الفواحش، ثم ثنّى بما هو أشدّ تحريمًا منها وهو الإثم والظلم، ثمّ ثلث بما هو أعظم تحريمًا منهما وهو الشرك به -سبحانه-، ثم ربع بما هوأشد تحريمًا من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم وهذا يعمّ القول عليه -سبحانه- بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه، قال -تعالى-: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ فتقدم إليهم -سبحانه- بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه وقولهم لما لم يحرّمه: هذا حرام ولما لم يحلّه: هذا حلال، وهذا بيان منه -سبحانه- أنه لا يجوز للعبد أن يقول هذا حلال وهذا حرام إلا بما علم أنّ الله -سبحانه- أحلّه وحرمه».

خطر الجهال

     وقد بيّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - خطر الجهال المتصدرين للفتوى على الفرد والمجتمع حيث قال: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».

سبب لكل شر

     فَتصدُّرُ بعض المفتين غير المتأهلين سببٌ للضلال والإضلال، سبب للقتل وسفك الدماء، سبب للتفرق والاختلاف، سبب لوقوع المفاسد الاجتماعية والأخلاقية ومن تأمل قصة وقعت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - أيقن بخطر الفتى بلا علم فعَنْ جَابِرٍ قَالَ خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ أَوْ يَعْصِبَ شَكَّ مُوسَى عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جسده».

تنبيهات مهمة

     ولما كانت الفتوى بهذه المكانة والخطورة، وكان أهل الفوضى قد انتشروا في هذا الزمان، حتى انتشر داء الكلام على الله وفي دين الله بلا علم، أحببت الإشارة إلى بعض التنبيهات التي تُعرّف الإنسان قدره حتى لا يفتي في دين الله، التي يميّز بها الإنسان بين أهل الفتوى العلمية وبعض أهل الفوضى الإعلامية الذين تصدروا ولم يتأهلوا وأفسدوا ولم يصلحوا.

التنبيه الأول

     أنه ليس كل من أحسن الكلام في العلم الشرعي يحسن الفتوى؛ فباب الفتوى أخصّ وأدقّ من باب العلم؛ و العلم أوسع وأعمّ فليس كل متعلم يصلح للفتوى؛ ولهذا قال الشافعي -رحمه الله-: «لا يحل لأحد يفتي في دين الله إلا رجلًا عارفًا بكتاب الله: بناسخه ومنسوخه، وبمحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيّه ومدنيه، وما أريد به، وفيما أنزل، ثم يكون بعد ذلك بصيرًا بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيرًا باللغة، بصيرًا بالشعر، وما يحتاج إليه للعلم والقرآن، ويستعمل مع هذا الإنصاف، وقلة الكلام، ويكون بعد هذا مشرفًا على اختلاف أهل الأمصار، ويكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هذا هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فله أن يتكلم في العلم ولا يفتي».

قيد مهم

     فتأمل هذا القيد (وإذا لم يكن هكذا فله أن يتكلم في العلم ولا يفتي)؛ فالذي عنده علم شرعي ولم تكتمل فيه صفات الفتيا، لا يجوز له أن يفتي، فكيف بطلّاب العلم المبتدئين والقصاصين ومفسري الأحلام والخطباء والوعاظ ممن لم يرتق إلى مراتب العلم وطلابه فضلًا عن أن يكون من أهل الفتوى!؛ فعلى طالب العلم أن يعرف قدر نفسه، ولا تجرّه معرفته بشيء من العلم إلى الفتيا فيقع فيما لا يحسن، فيضرّ نفسه بعد أن كان منتفعاً، ويفتن غيره بعد أن كان بعيداً عن الفتن.

الضوابط الدقيقة

ولْيلحظ المرء تلك الضوابط الدقيقة التي ذكرها الإمام الشافعي -رحمه الله-، ولتقاس على بعض المفتين المتصدرين الذين لا يحسنون حتى الكلام بالعربية فلغة العلم عن لسانه بعيدة، وتراكيب الجمل في كلامه ركيكة.

- التنبيه الثاني: أن من حَرَص على الفتوى، ولم يكن قد تأهّل ولم يضطر لها، قلّ توفيقه واضطرب في فتواه.

 قال أبو بكر الخطيب والصيمري: «قلّ من حرص على الفتوى وسابق إليها، وثابر عليها إلا قلّ توفيقه واضطرب في أمره، وإذا كان كارهًا لذلك غير مختار له ما وجد مندوحة عنه، وقدر أن يحيل بالأمر فيه على غيره، كانت المعونة له من الله أكثر والصلاح في جوابه وفتياه أغلب».

- التنبيه الثالثمن شروط المفتي وصفاته؛ قال ابن الصلاح الشهرزوري: «أما شروطه وصفاته فهي: أن يكون مكلّفاً، مسلماً، ثقة، مأموناً، متنزهاً من أسباب الفسق، ومسقطات المروءة؛ لأن من لم يكن كذلك فقوله غير صالح للاعتماد، وإن كان من أهل الاجتهاد، ويكون فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح التصرف والاستنباط، مستيقظاً».

ولاحظ من هذه الشروط ثلاثة:

- أن يكون ثقة مأموناً، لا مجهولاً غير مأمون العلم ولا سليم العقيدة.

- أن يكون منزهاً من أسباب الفسق أي غير واقع في كبائر الذنوب، ولا مصراً على صغائرها.

- أن يكون منزهاً من أسباب خوارم المروءة. والمروءة هي: كمال النفس بصونها عمّا يوجب ذمها عرفًا ولو مباحًا في ظاهر الحال.

فإذا رأيت من بعض المتصدرين للفتيا في الواقع الإعلامي مروءة مخرومة، وأخلاقاً مجذومة، ومناهج منحرفة؛ فاعلم أن فتواه ليست أهلاً للاعتماد، و تقريراته ليست صادرة عن تقوى واجتهاد.

التنبيه الرابع

دعائم الفتوى: تقوم الفتوى على خمس دعائم، مَن أخلّ بها أو ببعضها أخلّ بفتواه، وقد بيّن الإمام أحمد هذه الدعائم فقال -رحمه الله-: «لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:

- أولها: أن تكون له نية -أي حسنة لله-، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور.

- الثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة.

- الثالثة: أن يكون قوياً على ما هو عليه، وعلى معرفته.

- الرابعة: الكفاية - أي كفاية مال - وإلا مضَغه الناس.

- الخامسة: معرفة الناس.

     علق ابن القيم على كلام الإمام أحمد قائلاً: «وهذا مما يدل على جلالة الإمام أحمد ومحلّه من العلم والمعرفة، فإن هذه الخمسة هي دعائم الفتوى وأي شيء نقص منها ظهر الخلل من المفتي بحسبه»، فأين هذه الدعائم من بعض المتصدرين للفتوى في واقع الإعلام؟! لا تجد عند بعضهم مسْكَة من هذه الدعائم، فالنية عند بعضهم الشهرة والمال كما يدل عليه الحال والمآل، والأفعال عند بعضهم على غير الحلم والوقار، أما القوة العلمية فهي عند بعضهم معلومات ثقافية مبعثرة ضعيفة، وأما المعرفة بالناس عند بعضهم، فلا تكاد تتصل إلا عبر طريق شاشة التلفاز، فكيف يتصدر من هذا حاله؟! وكيف يوثق بقوله وأفعاله؟!

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك