رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: فَتْحي بِن عَبدِ الله المَوْصِليِّ 8 فبراير، 2017 0 تعليق

الإصلاح الشرعي… المنطلقات والمقومات (1)

يدرك كل ذي بصيرة غيور على أمته ودينه أن الداء العضال الذي أصاب الأمة في وقتنا الحاضر لا يعالج بالأمنيات والشعارات، ولا بإطلاق العبارات ويسير التحركات، ولا بإصدار البيانات وتحريك المظاهرات، وإنما يعالج بمنهجية عريقة وسنين طويلة وجهود كبيرة من العمل والإصلاح، ويقف المصلحون عنده وقفات تصحيحيّة، ويضعون له حلولاً جذريّة ومعالجات ربانيّة: تارة بالحلول القرآنيّة والإرشادات النبويّة، وتارة أخرى بالسياسات الشرعيّة والتراتيب الإدارية، وتارة ثالثة بالخطط العلمية والبرامج التربوية؛ إذ مهمة المصلح مهمة عظيمة ووظيفته وظيفة دينية شرعية لا يقدر عليها إلا من جمع بين حسن الفهم وسلامة القصد، واتصف بهمة عالية وعزيمة صادقة وبصيرة نافذة، وقد تيقن أهل الإصلاح – في كل العصور- يقيناً جازماً -أن الإصلاح الشّرعيّ ليس مجرّد تغيرات تطرأ، أو شعارات ترفع، أو رموز تهزم، أو وزارات تقهر، وإنما هو إصلاحٌ شرعيٌّ يستند إلى ثلاث مقدمات:

أولها: الأمر بالواجب والعلم بالواقع.

والثانية: الاعتناء بالأولويات في كل مرحلة من مراحل الإصلاح.

والمقدمة الثالثة: أن الإصلاح في كل أنواعه منوط بالقدرة، ويدور مع رجحان المصلحة وظهور الحكمة، وعلى هذه المقدمات الثلاث يُبنى الإصلاح الشرعي الذي يعيد للأمة وجودها ومجدها، ويحفظ لديننا الحنيف أصوله وقواعده وثوابته.

قضية مهمة

وهاهنا قضية مهمة، وهي: أن الإصلاح المعتبر الذي تظهر فوائده وثماره هو الإصلاح الشامل المتدّرج، وليس الإصلاح الناقص المتعجّل؛ فالإصلاح من حيث أنواعه هو الإصلاح الدينيّ الاجتماعيّ السياسيّ:

     فالديني يمر بمراحل، والاجتماعي يمر بمراحل، والسياسي -هو الآخر- يمر بمراحل؛ فالانتقال مرة واحدة من الدينيّ إلى الاجتماعيّ ومن الاجتماعيّ إلى السياسيّ من غير اعتماد التدرّج في كل نوع، واستكمال العناصر في البناء خلل عظيم يفضي -غالباً- إلى تضييع الجهود، وتشتيت المصالح، وتعريض الأمة إلى مزيد من الفتن والمحن؛ فالخلل الواقع من بعض المشتغلين في ميادين الإصلاح لا يقتصر على جانب التعجل، بل هو خللٌ عامٌّ في الوسائل والمقاصد، وفي المقدمات والمنطلقات، وفي المفاهيم والتصورات، وفي المناهج والنظم.

منطلقات الإصلاح الشّرعيِّ الشّامل

     إذا كان الإصلاح قائماً على أسسٍ صحيحةٍ ومقدماتٍ سليمةٍ، وفيه مراعاة لقاعدة التدرُّج؛ فيبدأ فيه المصلحون بالأهمِّ فالأهمّ، وبالأسهل قبل الأصعب، وبالواجب قبل المستحب، وبالمقدور عليه قبل المعجوز عنه-؛ فإن فوائده تظهر وثماره تَنضَج؛ ويكون -بهذا الاعتبار- الطريق الأقوم للحفاظ على الموجود والسبيل الأسلم لإرجاع المفقود؛ بل يكون الطريق الأمثل لتحصيل المصالح وإزالة المفاسد عن الفرد والمجتمع، وتحديد منطلقات الإصلاح وتعيينها من قبل المصلحين، والتدرُّج بها في المعالجة لا تقوم على التجارب البشرية والتنظيرات العقلية والنتائج البحثية فحسب؛ بل تستند أصالةً إلى الحقائق الشرعية القطعية والمناهج الربانية الدينية التي اعتمدها الأنبياء والرسل في إصلاح أقوامهم.

وهذه المنطلقات بحسب ترتيبها الوجوديّ والشرعيّ نرى بينها ارتباطاً في المعنى وتناسباً في المبنى؛ فهي مرتبة بحسب الوجود، ومتدرّجة بحسب الوجوب، وتنتهي كلها بالتاء المربوطة، وهي:

     إصلاح الخاطرة، وإصلاح الفكرة، وإصلاح الإرادة، وإصلاح الكلمة، وإصلاح الطاعة، وإصلاح الصحبة، وإصلاح الأسرة، وإصلاح المعاملة، وإصلاح الدعوة، وإصلاح الإدارة، وإصلاح القدوة، وإصلاح الولاية، وإصلاح السياسة، وإصلاح الدولة، وإصلاح الأمة، وإصلاح الحضارة.

وترجع هذه المنطلقات إلى أصلين عظيمين:

- الأول: إصلاح النفس والذات بالعلم والإيمان.

- والأصل الثاني: إصلاح الواقع بالواجب.

وتتوزع هذه المنطلقات على هذين الأصلين بقسمة عادلة؛ حيث تتفرع عن الأصل الأول منطلقات ثمانية، وهي:

إصلاح الخاطرة والفكرة والإرادة والكلمة والطاعة والمعاملة والصحبة والأسرة، في حين تتفرع عن الأصل الثاني – وهو إصلاح الواقع بالواجب- المنطلقات الثمانية الباقية، وهي:

     إصلاح الدعوة والإدارة والقدوة والولاية والسياسة والدولة والأمة والحضارة، ولو تأملنا الآيات الشرعية والسنن الكونية لتيقنا أن إصلاح الواقع هو ثمرة إصلاح النفس، وأن إصلاح النفس هو أصل وأساس لإصلاح الواقع؛ إذ تغيير الواقع متوقف على تغيير النفس؛ فبداية التغيير من الإنسان ونتيجة التغيير وثمرته من الله تعالى؛ كما قال – تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، وقد جاء في تفسير هذه الآية عن التابعي المشهور قتادة – رحمه الله – أنه قال: «إنما يجيء التغيير من الناس والتيسير من الله؛ فلا تغيروا ما بكم من نعم الله». (رواه ابن أبي حاتم في تفسيره برقم 12202) مقومات الإصلاح الشّرعيِّ الشّامل وعناصره وموادّه: الإصلاح الشّرعي الشامل لا ينهض بمجرد تحديد المنطلقات، بل لا بد من تعيين المقومات والعناصر التي تتم بها عملية الإصلاح؛ وإلاّ يبقى الإصلاح شكلاً لا مضموناً، وصورةً بلا حقيقة، وتنظيراً بلا تطبيق.

بين المنطلقات والمقومات

     فالمنطلقات بمثابة المراحل التي يحددها الطبيب في علاج المريض. أما المقومات والعناصر فهي بمثابة الدواء التي يصفه الطبيب للمريض؛ فلا يبقى بعد ذلك من الأسباب إلا استعداد جسم المريض لقبول العلاج، ومهارة الطبيب في المعالجة؛ أما نتيجة الشفاء فهي على الله -تعالى-، ويمكن القول بأن الوقوف على عناصر الإصلاح ومقوماته ومواده يعين المصلح الربانيّ على المعالجة الدقيقة للواقع من جهة، ويمكِّنه من استظهار معالم المنهج الشرعيّ في التغيير والإصلاح من جهة أخرى بعيداً عن مخاطرات أهل التعجّل أو مقامرات أهل السياسة أو مجازفات أهل الهوى، وإذا تعيّنت عند المصلح الربانيّ المنطلقات والأولويات وعلم من أين يبدأ؛ وتبينت له المقومات والعناصر والمواد شرع بعد ذلك بحسب الإمكان بالإصلاح المتدرّج الشامل الجامع للوسائل والمقاصد والمركب من المراحل والعناصر على النحو الآتي:

إصلاح الخاطرة بالمراقبة

     وهو المنطلق الأول في الإصلاح؛ فيبدأ الإنسان بإصلاح خواطره وهواجسه وحديث نفسه؛ إذ مبدأ السيئة من حديث النفس والخاطرة؛ لهذا قال -تعالى- على لسان يوسف -عليه السلام-: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}، وجاء في الحديث الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم  -، فيما يروي عن ربه -عز وجل- وفيه: «ومن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همَّ بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة».

إصلاح الفكرة بالعقيدة

     لأن إصلاح العقل والفكر لا يكونان إلا بسلامة الاعتقاد وصحة التوحيد، كما قال -تعالى- على لسان إبراهيم -عليه السلام -: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}؛ لهذا جعل الإسلام إصلاحَ التفكيرِ هو الأساسَ لكل إصلاح سواء كان إصلاحا دينيّاً أم اجتماعيّاً أم سياسيّاً، يقول الطاهر بن عاشور -رحمه الله-: «وكان إصلاح الاعتقاد أهم ما ابتدأ به الإسلام وأكثر ما تعرض له؛ وذلك لأن إصلاح الفكرة هو مبدأ كل إصلاح؛ ولأنه لا يرجى صلاح لقوم تلطخت عقولهم بالعقائد الضالة، وخسئت نفوسهم بآثار تلك العقائد المثيرة خوفا من لا شيء وطمعا في غير شيء. وإذا صلح الاعتقاد أمكن صلاح الباقي؛ لأن المرء إنسان بروحه لا بجسمه».

إصلاح الإرادة بالإخلاص

     أي: لم يكن القصد من الإصلاح مجرّد مخالفة الناس ومعارضتهم وتخطئتهم والتشهير بهم؛ وإنما تكون إرادة المصلح متجهة إلى إصلاح أقوال الناس وأعمالهم وتصرفاتهم وأحواله؛ بحيث تكون صالحة في نفسها مُصلحة لغيرها؛ كما قال -تعالى- على لسان شعيب -عليه السلام-: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ}؛ فقوله: (إِنْ أُرِيدُ) تجريد الإرادة من القوادح والحظوظ، وإصلاحها بالإخلاص. وقوله: (إِلَّا الْإِصْلَاحَ) قصر الإرادة على طلب الإصلاح الشامل الكامل؛ لأن الاسم في الإطلاق والإثبات يحمل على الكامل منه. وقوله: (مَا اسْتَطَعْتُ) تقييد الإصلاح بالاستطاعة.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك