رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: علاء بكر 22 يناير، 2020 0 تعليق

الإسلام وذم التعصب (3)

ما زال الحديث موصولاً عن موقف الإسلام من التعصب؛ حيث ذكرنا في المقال السابق التعَصُّب في الدين، وموقف الشرع منه، وبعض مظاهر ذلك التعصب، واليوم نتكلم عن صور من التعصب في الدين.
 
     شَهِد التاريخُ الإسلامي قديمًا وحديثًا صُوَرًا من التعَصُّب الممقوت للمذاهب الدينية وللجماعات والأئمة والمشايخ، أوقعت الأمة في الاختلاف والتشاحن والمُبَالَغَة في مُعاداة بعضهم بعضًا فعلا وقولا، وقد تضافرت جهود العلماء والمصلحين على التصدي لهذه الأمور بنشر العلم الصحيح، ورَدِّ الكثيرين من المتعصبين إلى جَادَّة الطريق ببيان الصواب للمُخَالِفِين، وبيان حكم الشرع في مسائل النزاع، والتصدي للشُّبَه الواهية التي يستبيح بها المتعصبون أعراض إخوانهم في الإسلام، ولاسيما في المسائل التي ينبغي الرجوع فيها لكبار أهل العلم وجهابذته لا لصغار العلماء والمُتعلمين وطلبة العلم، ولاسيما في مواطن الفتن والمسائل التي تزل فيها أقدام الكثيرين، والقضايا التي يختلف فيها المجتهدون.
 
التعَصُّب الممقوت
ونذكر هنا بعضًا من التعَصُّب الذي عانى منه المسلمون قديمًا وحديثًا؛ للاسترشاد به فيما يكون على شاكلته، فمن ذلك:
(1)  إيجاب التقليد لمذهب من المذاهب الفقهية الأربعة
 
     تقليد المسلم -الذي لم يبلغ رُتبة الاجتهاد- لمذهب من المذاهب الفقهية الأربعة (المالكي والحنفي والشافعي والحنبلي) من الأمور الجائزة شرعًا، فيُقَلِّد المسلمُ مذهبًا منهم بعينه فيعمل به في كل أمور الدين، أو يتحول من مذهبٍ منهم إلى آخر، دون أن يطلب في عمله بالمذهب دليلًا من الكتاب أو السُنَّة.
 
التعَصُّب في هذا الأمر
     أما التعَصُّب في هذا الأمر فهو بإيجاب الأخذ بمذهب من المذاهب الفقهية على كل مسلم، وغلق باب الاجتهاد في الدين، وهو ما شاع في فترات من التاريخ الإسلامي، وما زال عند بعضهم من أتباع المذاهب الأربعة، وصاحبه تمادى في هذه الدعوة حتى راح بعضهم يغالي في إمامه الذي يتبعه ويوجب تقديمه على مَن سواه من الأئمة الآخرين، بل ويطعن في المذاهب المخالفة ويُسَفِّهها وينتقص ممن يأخذ بأحكامها؛ مما سبب الكثير من الفتن في بعض الفترات من تاريخ المسلمين.
 
     يقول ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان (1/ 273) بعد أن ذكر ما كان لمدينة أصفهان من مجد: «وقد فشا فيها الخراب من نواحيها، لكثرة الفتن والتعَصُّب بين الشافعية والحنفية، والحروب المُتَّصِلة بين الحزبين؛ فكلما ظهرت طائفة نَهَبَت محلة الأخرى وأحرقتها وخربتها، لا يأخذهم في ذلك إِلٌّ ولا ذِمَّة».
 
الأقوال الشنيعة
     وظهرت معه الأقوال الشنيعة، ومنها ما نقله الحافظ الذهبي في ترجمته لقاضي دمشق الحنفي محمد بن موسى البلاساغوني قوله: «لو كان لي أمرٌ لأخذت الجزية من الشافعية»، ويقول صاحب مراقي الفلاح الحنفي (ص 21-22) عن ماء البئر النجس: «فإن عُجن بمائِها يُلقى للكلاب، أو يُعلف به المواشي، وقال بعضهم: يباع لشافعي.
 
أعمال عجيبة
     وارتكبت به الأعمال العجيبة: فمنع بعضهم زواج الرجل الحنفي من المرأة الشافعية، وأجازه آخرون قياسًا على الذمِّية!!، وجعل في المساجد الجامعة أربعة منابر، لكل مذهب منبر؛ فيصلي أتباع كل مذهب في نفس المسجد جماعة خلف إمام من مذهبهم ارتضوه، ولا يصلون خلف غيره من أئمة المذاهب الأخرى ولو تأخر عنهم إمامهم. فتقام للصلاة الواحدة أربع جماعات متفرقة في المسجد الواحد!؛ فكان إيجاب تقليد إمام مذهب دون غيره في أحكام الدين كلها والتعصب له والموالاة والحب والمعاداة والكره على ذلك -على عِظَم قدر هؤلاء الأئمة- تعَصُّبًا مذمومًا؛ فكيف بمن هم دونهم بكثير؟.
 
(2) التعصب للأشخاص
     دَأَبَ أبناءُ بعض الجماعات على إضفاء هالةٍ من التقديس على مؤسس جماعتهم، ولا يوجد داعية -مهما بلغت منزلتُه- معصوما، ولا يعيب داعيةً أن يخطئ، ولكن العيب كل العيب في الإصرار على اتباع الخطأ بعد أن تبين أنه خطأ، أو متابعة هذا المخطئ على خطئه الذي اتضح، ورغم وضوح ذلك فإن في الجماعات العاملة في الساحة مَن يأبى إلا أن يجعل مؤسس جماعتهم فوق المراجعة، ومنهجهم الدعوي فوق المناقشة، ونتائج أعمالهم فوق المحاسبة والمراجعة، ويفرضون على أتباعهم ضرورة التمسك بما وضعه المؤسس لا يحيدون عنه.
 
(3)  التعصب للجماعة
     يُصِرُّ بعضهم على اعتبار جماعته جماعةَ المسلمين أو الجماعة التي ينبغي أن يعمل تحت لوائها ويسمع لها المسلمون كلهم، مع أن أي جماعة لا يمكنها أن تقوم بمفردها بأعباء الدعوة إلى الله، وأن تغطي فروض الكفايات في الأُمَّة في مشارق الأرض ومغاربها.
 
     ولا شك أن لذلك آثارا عدة أهمها: رفض التعاون مع الآخرين إذا سبقوهم إلى خير، والتمادي في الخصومة، والتحريض على المخالفين، والتغاضي عن أخطاء الجماعة ومخالفاتها الشرعية إن وجدت، وعدم الاعتراف بما يقع من أخطاء أو تقصير من مسؤوليهم، والتعصب للأسماء، وجعل الموالاة والمعاداة للآخرين عليها.
 
من وسائل علاج التعَصُّب في الدين
(1) تربية الأفراد على الإخلاص لله -تعالى-، وإصلاح القلب، وتزكية النفس. فإن التعَصُّب من دواعيه اتِّباع الهوى والجهل والجرأة على الدماء والأعراض والأموال، مع ما يُصاحِب ذلك من عدم تحري الحق، وعدم الاحتياط في تكفير المسلمين، والتعرض للدماء المعصومة والأعراض والأموال؛ لذا كان من دأب الكثير من الأئمة في أوقات الفتن الإكثار من الطاعات والعبادة، وشدة اللجوء إلى الله في طلب الهداية، والحذر من الاندفاع والتهور وترك التمهل والتروي، بل اعتزال الفتن ما لم يتبين الحق فيها جليًا؛ وقد كانت هذه التربية وراء السلامة في الدين عند أئمة الأُمَّة؛ فنقل عنهم ما يدل على سلامة قلوبهم، فمن ذلك: قال ابن وهب: سمعت مالكًا يقول: إن المرجئة أخطؤوا وقالوا قولًا عظيمًا. قال: إن أحرق الكعبة، أو صنع أي شيء فهو مسلم. فقيل لمالك: ما ترى فيهم؟ قال: قال الله -تعالى-: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (التوبة: 11)، وعن أبي الحسن الأشعري في (مقالات الإسلاميين: 1/21) بتصرف: «اختلف المسلمون بعد نبيهم في أشياء ضَلَّلَ بعضُهم بعضًا، وتبَرَّأَ بعضُهم من بعضٍ؛ فصاروا فِرَقًا مُتبَايِنين، إلا أن الإسلام يجمعهم فيعُمّهم».
 
     وعن الإمام الجويني في (غياث الأمم: 186) قال: «فإن قيل: فَصّلوا ما يقتضي التكفير وما يُوجِب التبديعَ والتضليلَ. قلنا: هذا طمَعٌ في غير مَطْمَعٍ؛ فإن هذا بَعِيدُ المَدْرَك، مُتَوَعِّرُ المَسْلَك، يُستمد من تيار بحار علوم التوحيد، ومَن لم يُحِطْ بنهايات الحقائق لم يَتَحَصَّل في التكفير على وثائق».
 
     وعن الإمام أبي حامد الغزالي في (الاقتصاد في الاعتقاد: 135) قال: «والذي ينبغي أن يميل المُحَصّل إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلًا؛ فإن استباحة الدماء والأموال من المُصَلِّين إلى القبلة المُصَرِّحين بقول «لا إله إلا الله محمد رسول الله» خطأ، والخطأ في ترك ألف كافرٍ في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلمٍ واحد».
ويقول الغزالي أيضًا في (فصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ص 61): «أما الوصية: فأن تكف لسانك عن أهل القبلة ما أمكنك، ماداموا قائلين «لا إله إلا الله محمد رسول الله»؛ فإن التكفير خطر، والسكوت لا خطر فيه.
 
(2) طلب العلم النافع
الحرص على طلب العلم النافع ونشره، والجِدِّية في تحصليه؛ فبالعلم يُعرف الحق من الباطل، وإن غَالِب مَن تزل قدمه في الحوادث الشديدة والفتن هم جُهَّال الناس ومَن لا نصيب لهم من العلم الكافي الذي يمكنهم من الوصول للحق أو تجنُّب الزلل.
 
(3) فهم الكتاب والسنة
     تحري أن يكون فهم الكتاب والسُنَّة على فهم السلف الصالح ونهجهم والأصول التي وضعها أئمة أهل السُنَّة والجماعة؛ إذ إن الخروج عنها ومُخالَفتها مَدعاةٌ للوقوع في الزلل، وإن غَالِب مَن تزل قدمه في الحوادث الشديدة والفتن ممن لا يتمسكون بفهم أهل السُنَّة والجماعة ونهجهم وأصولهم.
 
(4) معرفة مواضع الإجماع
     معرفة مواضع الإجماع ومواضع الخلاف في مسائل الدين وقضاياه المُثارة، ومعرفة مواطن الخلاف المُعتَبَر والخلاف غير المُعْتَبَر في هذه المسائل وأيها من مسائل الاجتهاد التي لا نص فيها صريح وتحتاج إلى دقة فهم من العلماء أصحاب الحق في الاجتهاد فيها.
 
(5) الرجوع إلى كبار العلماء
     الرجوع في المسائل المُثارة في الحوادث الكبيرة والفِتَن إلى كبار العلماء المشهود لهم بالإمامة في الدين؛ فلا يكفي في هذه الحالات الاكتفاء بالأخذ عن أنصاف المشايخ وصِغار العلماء وطلبة العلم مهما كان شأنهم، ولاسيما في المسائل المتوقفة على تقدير المصالح والمفاسد التي لا يُحْسِنها إلا الجهابذة في العلم والدين.
 
(6) البعد عن الفردية
     ضرورة التربية للأفراد في ساحة العمل الإسلامي عامةً والجماعات الدعوية خاصةً على البعد عن الفردية وتحري العمل الجماعي والعمل المؤسسي؛ فالعمل الفردي أقرب للخطأ من العمل الجماعي، والعمل الجماعي نتاج مُنَاقَشة ومُدَارَسة تَقِلُّ معها نسبة الخطأ واحتمالاته، والمراد بالعمل الجماعي أن يلتحق الفرد بالجماعة التي يراها تتمسك بما كان عليه أهل السُنَّة والجماعة، وتلتزم أصول المنهج السلفي وقواعده، وتراعي مبدأ الشورى في عملها؛ فيصير عملها مؤسسيًا منضبطًا بنهج لا مجال فيه للعصبية أو الأهواء؛ تُتناقش فيها المسائل الشرعية من خلال النظر في أقوال العلماء المعتبرين وترجيح الحق أو الأقرب للصواب.
 
     يَدرس هذه الجماعة حتى تَطمئِن نفسُه إلى منهجها، وإلى أفرادها وما هم عليه من العلوم المتنوعة والمواهب المتعددة والتجارب؛ حتى إذا انْضَمَّ إليها كان انضمامُه أضمن للوقاية من الخطأ والزلل، وأدعى للوصول إلى الحق؛ إذ الالتحاق بجماعة وسيلة للانطلاق إلى العمل الجاد ومعرفة الحق والعمل به والدعوة إليه. فالجماعة -أي جماعة- ليس الالتحاق بها غايةً وهدفًا نهائيًا ولكن وسيلة.
 
الإعجاب بالأفراد
     ومن الخطأ -كل الخطأ- أن يلتحق الفرد بجماعة من أجل أنه رأى فيها فلانًا من الناس أُعجِب بعلمه أو سلوكه أو شجاعته أو غير ذلك من الصفات الحميدة؛ فيرتبط بهذه الجماعة من أجله، ويُعَلِّق بقاءه فيها على استمراره فيها، بل قد يصدر من هذا الفرد أخطاء أو مُخالَفة للشرع باجتهاد أو معصية -وهذا لا يسلم منه أحد- فيخيب ظن مَن تعلق به وتعلق بالجماعة من أجله؛ فيصدر حكمه لا على مَن تَعَلَّق به فقط بل على الجماعة كلها، أما قناعته بالجماعة لا بفرد منها تجعله يتمسك بالجماعة ولا يتأثر تعَلُّقه بها بفرد منها جانَبَه الصواب في جانب من الجوانب أو فترة من الفترات.
 
التعاون على البر والتقوى
     أن تتعاون هذه الجماعة مع غيرها من الجماعات الموجودة في ساحة الدعوة والعمل الإسلامي، ممن تلتزم المنهج نفسه أو قريبًا منه؛ إذ إنه لا تستطيع جماعة بمفردها اليوم -مهما بلغ شأنُها- أن تحوز الخير كله، أو أن تقوم بالتكاليف المنوطة بالأمة، ومِن خلال هذا التعاون مع الآخرين تطَّلع على ما عندهم، وتفتح باب التواصل والمُناقَشة معهم، تعرض عليهم ما لديها وتتعرف منهم على ما عندهم؛ بحثًا عن الحق والصواب، ونُصحًا في الدين، وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر؛ ومِن ثَمَّ تتعاون وتساهم معهم فيما يمكنها من صور التعاون والمساهمة في سد الثغرات وأداء فروض الكفايات.
 
آفةٌ تصيبُ المجتمعَ
    التعَصُّب آفةٌ تصيبُ المجتمعَ فتنشر فيه الخصومات والعداء؛ فيظلم أهلُ المجتمعِ الواحدِ بعضُهم بعضًا بلا وازعٍ مِن دِينٍ أو أخلاقٍ، بل هم يظنون أنهم بذلك يُحسِنون صُنعًا!. ومدار التعَصُّب على تبني مسألة أو قضية غالبًا بحكم مسبق ودون مناقشةٍ وتَحَرٍّ لصوابٍ؛ اتِّبَاعًا لجماعةٍ أو شيخٍ أو مَتبُوعٍ. ويُعَدُّ التعَصُّب في الدين من الظواهر السلبية التي انتشرت في الفترة الأخيرة في مجتمعنا، وتحتاج إلى سرعةٍ وحسنِ تعاملٍ وعلاجٍ معها.
 
التزكية وإصلاح النفس
     ويكمن العلاج في التزكية وإصلاح النفس والقلب، والإخلاص لله -تعالى- وحده، وتعظيم حرمات المسلمين، وتحري الحق في مسائل الخلاف، بتعلم العلم النافع، بفهم الكتاب والسُنَّة بفهم السلف الصالح، ومُرَاجَعَة الأكابر من العلماء أصحاب القدرة على النظر والاجتهاد في الدين، مع مراعاة مسائل الخلاف المُعتَبَر أو الاجتهاد الذي لا نص صريح فيه أو يرتبط بتقدير المصالح والمفاسد فيعذر فيها المخالف، وما هو من مسائل الإجماع أو الخلاف غير المُعتَبَر فينكر على صاحبه في إطار ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومراعاة حقوق المسلم على أخيه المسلم وآداب الخلاف في الإسلام، مع التربية على العمل الجماعي المؤسسي الذي تقل فيه احتمالات الخطأ والزلل.
 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك