رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: علاء بكر 31 ديسمبر، 2019 0 تعليق

الإسلام وذم التعصب (2)


ذكرنا في المقال السابق أن التعَصُّب من المشكلات الاجتماعية التي عانت وتعاني منها المجتمعات قديمًا وحديثًا؛ لذا نال الكثير من الدراسات حول أسبابه ومظاهره وأساليب علاجه، ولاسيما وأنه يترتب عليه سلوكات -من المتعَصِّب- هي سيئات وأخطاء يتشابه بها مع المجترئين على الظلم والمعاصي وهو لا يدري، وذكرنا بيان معنى التعَصُّب عموما واليوم نتكلم عن التعَصُّب في الدين، وموقف الشرع منه، وذكر بعض مظاهر التعصب في الدين.

      يمكن تعريف التعصب في الدين تعريفًا مُبسطًا بأنه: «تَبَنِّي -أو الأخذ بـ - رأي -أو فِكْر أو مُعْتقَد أو تَوَجُّه- بحُكْمٍ مُسبقٍ، دون دراسةٍ مُتَأنِّيَةٍ ومُناقَشةٍ لما سواه، مُتَابَعَةً لجماعةٍ -أو شيخٍ أو عالِمٍ أو مَتْبُوعٍ-، مع الموالاة والمعاداة وتقييم الآخرين بمُقْتَضاه؛ فَبِهِ تكون المَحَبَّة والمُنَاصَرَة، وعَلَيه يكون الكُرْه والمُعَادَاة».

ثلاثة أركان

فالتعَصُّب الديني مَبْنِيُّ على ثلاثة أركان مجتمعة: اعتناق رأيٍ أو فِكْرٍ أو مُعْتَقَد، وحُكْم مُسبق دون دراسةٍ وافيةٍ لمَوْضُوعه، والموالاة والمعاداة عليه.

- فإذا كان الرأي أو المُعْتَقَد الذي تَبَنَّاه الشخص وتَعصَّب له، خارجًا عن حد الاعتدال الذي عليه الأدلة الشرعية؛ فهو غُلُوٌّ وتَطَرُّف.

- وإذا كان الرأي أو المُعْتَقَد الذي تَبَنَّاه الشخص وتَعصَّب له في مسألة خلافية الخلاف فيها معتبر أو مسألة اجتهادية لا نَصّ صريح فيها؛ فهو تعَصُّب.

- وإذا كان الرأي أو المُعْتَقَد الذي تَبَنَّاه الشخص وتَعصَّب له موافقًا للإجماع والمخالف له فيها خلافه غير مُعتَبَر؛ فليس بغُلُوٍّ ولا تعَصُّب، مع مراعاته لحق الأخُوَّة الإسلامية لمن خالَفَه فيه.

موقف الشرع من التعَصُّب

     ذم التعصب في القرآن الكريم: أبطَلَ القرآنُ في رَدِّه على المشركين تعَصُّبهم لآبائهم وكُبَرَائهم بدعوى أنهم أعلم عنهم وخيرٌ منهم، فاحتجوا على مُخالَفَة الحق والانصراف عنه بتلك الحجة، وظنوها كافية لتسويغ تَمَسُّكهم بما تَمَسَّكوا به ورَفْض الاستماع لما سواه، بحُكْمٍ مُسبق لا يقبل المناقشة والمراجعة، بل وعادوا المُخَالِف لهم بمقتضاه.

     والآيات القرآنية في إبطال هذه الشبهة كثيرة: قال -تعالى-: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (الزخرف:22-24)، فأخبر -تعالى- عن المشركين أنهم اعتذروا عن اتِّباع الحق بأنهم وجدوا آباءهم على طريقة وهم عليها مهتدون، ثم أخبر أن هذا المانع أجاب به أعداء الرسل في كل زمان ومكان.

الذم واضح من خلال التعجب من حال المُقَلِّدين؛ حيث يُقَلِّدون من لا يعلمون صِدق قوله، بل لو أمعنوا النظر لجزموا بكَذِبه، قال -تعالى-: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}.

التقليد بحكم مسبق

     والتقليد بحكم مسبق في الكُفر كُفر، والتقليد فيما دون الكُفر معصية، قال -تعالى-: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (البقرة:169-170)، والآية ذُكر أنها نزلت في اليهود، قال ابن عباس: «دعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - اليهودَ إلى الإسلام ورَغَّبَهُم فيه وحَذَّرَهُم عذابَ اللهِ ونِقْمَتَه، فقال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف: بل نتبع يا محمد ما وجدنا عليه أباءنا فهم كانوا أعلم وخيرًا منا؛ فأنزل الله في ذلك: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}».

العبرة بعموم اللفظ

     والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولاسيما وأن الآيات بدأت ب{يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، فالضمير في {لَهُم} الأقرب أنه عائد إلى أقرب مذكور وهو الناس، فيكون الخطاب عامًّا أُرِيد به خاص، فتَعُمُّ الآيةُ كُلَّ من امتنع عن اتّباع الحق من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين، قال -تعالى-: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (المائدة: 104)، وقال -تعالى-: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} (يونس: 78)، وقال -تعالى-: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} (لقمان: 21).

جَادَّة الصحابة والتابعين

     قال الشاطبي في (الاعتصام: 534): «ولقد زَلَّ -بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال- أقوامٌ خرجوا بسبب ذلك عن جَادَّة الصحابة والتابعين، واتبعوا أهواءهم بغير علم؛ فَضَلُّوا عن سواء السبيل»، وذكر لذلك أمثلة، منها قوله: «وهو أشدها، قول مَن جَعَل اتِّباع الآباء في أصل الدين هو المرجع إليه دون غيره، حتى رَدُّوا بذلك براهين الرسالة وحُجَّة القرآن ودليل العقل، فقالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (الزخرف: 23)، فحين نُبِّهوا على وجه الحُجَّة بقوله -تعالى-: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} (الزخرف: 24)، لم يكن لهم جوابٌ إلا الإنكار اعتمادًا على اتِّباع الآباء واطِّراحًا لما سواه، ولم يزل مثل هذا مذمومًا في الشرائع، كما حكى الله عن قوم نوح عليه السلام بقوله -تعالى-: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} (المؤمنون: 24)، وعن قوم إبراهيم - عليه السلام - بقوله -تعالى-: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (الشعراء: 72-74). إلى آخر ذلك مما في معناه، فكان الجميع مذمومين حين اعتقدوا أن الحق تابعٌ لهم، ولم يَلتَفِتوا إلى أن الحق هو المُقَدَّم».

شبهة عامة

     وهذه الشبهة عامة في غير التعَصُّب للآباء، وإن كان التعَصُّب للآباء والرؤساء وما عليه المجتمع أَشَدّ، قال -تعالى-: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} (الأحزاب: 67). قال عبدُ اللهِ بن مسعود - رضي الله عنه -: «أَلَا لَا يقلدنَّ أَحَدُكُمْ دِينَهُ رَجُلًا؛ إِنْ آمَنَ آمَنَ، وَإِنْ كَفَرَ كَفَرَ، فَإِنَّهُ لَا أُسْوَةَ فِي الشَّرِّ»، وعن ابن مسعود أيضًا قال: «لَا تُقَلِّدُوا دِينَكُمُ الرِّجَالَ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَبِالأَمْوَاتِ لا بِالأَحْيَاءِ»، قال عَلِيّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -: «إِيَّاكُمْ وَالاسْتِنَانَ بِالرِّجَالِ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ يَنْقَلِبُ لَعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَمُوتُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَنْقَلِبُ لَعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَمُوتُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَإِنْ كُنْتُمْ لا بُدَّ فَاعِلِينَ فَبِالأَمْوَاتِ لا بِالأَحْيَاءِ».

ذم التعصب في السنة

قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَن قاتَل تحت راية عمية، يَغضَب لعَصَبَةٍ أو يدعو إلى عَصَبَة أو يَنصُر عصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَتُه جاهلية، وفي صحيح الإمام مسلم: (باب مَن قاتَلَ لتكون كلمةُ الله هي العُليا فهو في سبيل الله) عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قال النووي في شرح مسلم: «قَوْلُهُ «وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً» هِيَ الْأَنَفَةُ وَالْغَيْرَةُ وَالْمُحَامَاةُ عَنْ عَشِيرَتِهِ».

دعوها فإنها منتنة

     وفي السيرة: أنه في عودة جيش المسلمين من غزوة بني المصطلق اقتتل رجل من حلفاء الأنصار ورجل من المهاجرين، فقال حليف الأنصار: يا معشر الأنصار؛ فنصره رجال من الأنصار، وقال المهاجري: يا معشر المهاجرين؛ فنصره رجال من المهاجرين، حتى كان بين أولئك الرجال من المهاجرين والرجال من الأنصار شيء من القتال، ثم حجز بينهما، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما بال دعوى الجاهلية؟ دعوها فإنها منتنة»، ولما قال رأسُ المنافقين ابن أُبَيّ بن سلول بسبب ذلك ما قال؛ نَزَل قولُه -تعالى-: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (المنافقون: 8).

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك