الإسلام وذم التعصب (1)
إن التعَصُّب من المشكلات الاجتماعية التي عانتها وتعانيها المجتمعات قديمًا وحديثًا؛ لذا نال الكثير من الدراسات حول أسبابه ومظاهره وأساليب علاجه، ولاسيما وأنه يترتب عليه سلوكات -من المتعَصِّب- هي سيئات وأخطاء يتشابه فيها مع المجترئين على الظلم والمعاصي وهو لا يدري؛ إذ يتجرأ على مخالفيه ممن يخالفونه في الرأي أو الفكر أو الجماعة فيصفهم بما لا يستحقونه، رغم أنه في ظاهره من الصالحين، بل قد يظن أنه -بظُلْمِه وتَهَجُّمِه على الآخرين- ممن يُحسنون صنعًا ويُصلحون!؛ فيفسد في الأرض من حيث لا يدري، وهذا بحثٌ موجز في خمسة مطالب حول بيان معنى التعَصُّب عموما والتعَصُّب في الدين خصوصا، وموقف الشرع منه، وذكر بعض مظاهر التعصب في الدين، وإشارة إلى بعض وسائل علاج هذا التعَصُّب في الدين.
المراد بالتعَصُّب
جاء في المعجم الوجيز لمجمع اللغة العربية ص(420): «عَصَبَ الشيءَ عـصبًا: طَوَاه ولَوَاه وشَدَّه. يقال عصَبَ رأسَه بالعصابة. وعصَبَ الشجرةَ: ضَمَّ ما تفَرّق من أغصانها بحبل ثم خبَطَها ليسقط ورقها. عصَبَه: شَدًّه بالعصابة. اعتَصَبَ: شَدَّ العصابة. تعصب: شد العصابة. وتعصَّبَ القومُ عليهم: تجَمَّعُوا. تعصَّبَ فلانٌ: كان ذا عصبية. ويقال: تَعصَّبَ له، وتَعصَّبَ معه: نصره». «وعصبة الرجل: بنوه وقرابته لأبيه، أو قومه الذين يتعصبون له وينصرونه».
والعصابة: ما يُشَدُّ به الرأس من منديل ونحوه، والعصابة: العمامة. العصابة: الجماعة من الناس. وتَعصَّبَ القومُ: تجَمَّعوا وصاروا عصبة. والعصبة: جماعة مُتعصِّبة مُتعاضِدة. قال -تعالى-: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} (القصص: 76)، قال -تعالى-: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} (يوسف: 14)، أي: مجتمعة الكلام متعاضدة، فالتعَصُّب لشيءٍ: اعتقاد الصواب في هذا الشيء، ونفي الصواب عن كل ما هو مغاير له، والتعَصُّب لمبدأ يعني الغلو في التعلق به والغيرة عليه. فالتعَصُّب ثَبَاتٌ وتَحَجُّرٌ على الشيء.
التعَصُّب لرأي
والتعَصُّب لرأي هو أخذ هذا الرأي بحُكْمٍ مسبق. والحكم المسبق: حكم يصدر على رأي أو موضوع مُعَيَّن بقبولٍ أو رفضٍ، بغير سندٍ، أو بسند مردود عليه، ويكون قبل القيام باختبار وفحص الحقائق المتاحة عن هذا الرأي أو الموضوع، أو بعدم التفات إلى -أو تجاهل، أو لإنكار- سند الآخرين؛ إذ ليس من السهل على المُتعَصِّب تغيير رأيه بالمعلومات المُناقِضة له؛ فرأيه بمثابة حُكْمٍ مُتعَجّل ومبتسر.
حالة انفعالية
والتعَصُّب يصاحبه حالة انفعالية -بقبول أو عدم قبول- لأمر أو لغيره بحسب الحكم المسبق الذي تَبَنَّاهُ المُتَعَصِّب؛ فيعامل المُخالِف له بطريقة فيها تمييز، فالتعَصُّب يقود غالبًا إلى سلوكٍ ضد المُخالِفين لا يوجد عند التحقيقِ ما يسوغه؛ فالتعَصُّب يجعل الإنسان مسبقًا ودون تقييم موضوعي يُكوِّن أحكاما موجبة أو سالبة بصدد جماعاتٍ أو أشياء أو مفاهيم؛ فالحكم الذي اتَّخَذَه المتعَصِّب يُصاغ مقدمًا دون تَوافُر أدلةٍ كافية، ويُهَيِّئُ المتعَصِّب سلفًا للسلوك أو التفكير بطريقة معينة تجاه المُخالِفين، ويجعله يقاوم المعلومات الصحيحة الجديدة عليه؛ فالتعصب صورة من التصَلُّب والتَّزَمُّت.
تعريف التعصب
في ضوء ما بَيَنَّاه يمكن تعريف التعصب بأنه: «تَبَنِّي حُكْمٍ مسبق لا ينبني على شواهد معرفية، ويصعب تغييره، ويصحبه مشاعر حب أو كراهية إزاء موضوع التعَصُّب، ويترتب عليه سلوك لصالح موضوع التعَصُّب أو ضده». أي أن للتعصب ثلاثة مُكَوِّنات: مُكوِّن معرفي، ومُكوِّن وجداني، ومُكوِّن سلوكي، أي أن للتعصب ثلاثة مُكَوِّنات: مُكوِّن معرفي، ومُكوِّن وجداني، ومُكوِّن سلوكي.
مفاهيم متداخلة
هناك بعض المفاهيم التي ترتبط بالتعصب بعلاقة توافقية لكن مع مخالفته في أحد مكوناته، أو بعلاقة تناقضية مع كل مكوناته، وبيانها يزيد من فهم المراد بالتعصب، فمن هذه المفاهيم:
- الغُلُوّ: وهو مُجاوَزَة الحد والقَدْر. يُقال: غلا غلاءً فهو غالٍ، وغلا في الأمر أي: جَاوَز حَدَّه، وغلا في الدين غُلُوًّا أي: تَشَدَّد وتَصَلَّب حتى جَاوَزَ الحَدَّ. ولكن الاتجاهات العصبية أعم من الغلو؛ لذا فكُلُّ غُلُوٍّ تَعَصُّب، وليس كُلّ تَعَصُّبٍ غُلُوّ.
- التطَرُّف: وهو مُجاوَزَة حَدّ الاعتدال، والطرف: حَدّ الشيء وحرفه. والمراد هنا: منتهى الشيء وغايته. وتَطرف تفعل من الطرف، تطَرَّف يتطرف فهو مُتَطرِّف، سواء قلنا بأن الطرف هو منتهى الشيء أم مطلق الطرف. يقال للناقة إذا رعت أطراف المرعى (طرفت الناقة).
جاء في المعجم الوسيط في معنى التطَرُّف «تجاوز حد الاعتدال ولم يتوسط». فهو كالغلو؛ فمَن تجاوَز حد الاعتدال وغلا يصح لغويًا تسميته بالمُتَطَرِّف. وعليه أيضًا فكُلُّ تَطَرُّفٍ تَعَصُّب، وليس كُلُّ تَعَصُّبٍ تَطَرُّف.
- الوطنية: مذهب فكري يدعو إلى أن يشعر أبناء الوطن الواحد بالولاء لذلك الوطن، والتعصب له، أيًا كانت أصولهم التي ينتمون إليها وأجناسهم التي انحدروا منها؛ أي أن الولاء فيها للأرض بصرف النظر عن القوم أو اللغة أو الجنس أو الدين.
- القومية: حركة سياسية فكرية تدعو إلى ضرورة أن يكون أبناء الأصل الواحد واللغة الواحدة ولاءهم واحدا، وإن تعددت أرضهم وتفرقت أوطانهم.
والعلاقة بين القومية والوطنية: أن القومية من معناها أيضًا السعي في النهاية إلى توحيد الوطن بحيث تجتمع القومية الواحدة في وطن شامل؛ فيكون الولاء للقومية مصحوبًا بالولاء للأرض، ولكن الولاء للقومية يظل هو الأصل ولو لم تتحقق وحدة الأرض.
التعَصُّب العِرْقي
إحساس الفرد أن عِرْقَه أسمى مما عَدَاه، والعِرْقِيَّة: هي حال توحد الفرد مع الجماعة، إنه الشعور بالانتماء لجماعة مُتماسِكة يتجاوز حدودَ الأُسْرَة، وعادةً ما يكون لهذه الجماعة تاريخٌ واحدٌ ولُغَة واحدة ودينٌ واحد، ويعرف مصطلح العِرْق: بأنه عدد من الأنسال التي أنماطها المثالية في سلسلة من الخصائص المشتركة مثل اللغة والدين والقبيلة والجنس والجنسية، وهي مجموعة تُكَوِّن شعورًا بالانتماء لهوية واحدة مع باقي أعضاء الجماعة.
التمركز العِرْقِي
أما التمركز العِرْقِي: فيشير إلى الاعتقاد بأن جماعة الفرد هي الأفضل بين كل الجماعات، وأنها مركز كل شيء، بمعنى النظر إلى السلوكيات والأعراف والتقاليد التي تميز الجماعات الأخرى من خلال منظور التقاليد والقِيَم الثقافية لجماعة الفرد نفسه. بقول آخر: الحكم على الآخرين على أساس أن جماعة الفرد هي مرجع هذا الحكم؛ إيمانًا بالقيمة الفريدة والصواب التام للجماعة التي ينتمي إليها، والترَفُّع عن الجماعات الأخرى إلى حد اعتبارها من نوع غير نوع جماعته، ولا شك أن التمركز العِرْقِي -وفقًا لهذا التصور- عامل هام في نشأة الاتجاهات التعَصُّبية العِرْقِية وما يستتبعها من صراعات عِرْقِية تتخذ أشكالًا عديدة قد تصل إلى حد المذابح والإبادة والتمرد والثورة والإرهاب والحرب الأهلية وحروب التحرر ما بين الدول.
العُنْصُرِيَّة
وهي اعتقاد أن الإرث العُنْصُريّ (البيولوجي) أو الثقافي لجماعة الفرد يتفوق فطريًا على الإرث العنصري أو الثقافي لجماعة أو للجماعات الأخرى، وجعل ذلك مسوّغاً لمعاملة غير عادلة يصاحبها النظر بدُونِيَّةٍ إلى هذه الجماعة أو الجماعات الأدنى. فالعُنْصُرِيَّة ترى أن البشر ينتمون لسلالات، وهذه السلالات ليست متساوية في خصائصها، بل يتفوق بعضُها على بعض، ومظاهر الحضارة والرُّقِيّ فيها ترتبط بخصائص السلالات.
التسَامُح
نقيض التعَصُّب؛ بتَبَنِّي رأيٍ لا يصاحبه كراهية للمخالف أو سلوك عدواني تجاهه، فهو يقوم على تَبايُن الآراء والأفكار وحرية الاختلاف، ويقبل الحوار ومناقشة الآراء مهما اعتقد صاحبُها بصَوَابها. فالتسَامُح تَعَايُش مع الآخر بوصفه إنساناً وليس منتسباً إلى جماعةٍ مُغَايِرَة، والاتجاهات العصبية عديدة وكثيرة، فمنها: العصبية الدينية، والعصبية القومية، والعصبية الجنسية والعُنْصُرِيَّة، والعصبية الأيديولوجية، والعصبية الرياضية (في مجال الرياضة كالتعصب الكروي في لعبة كرة القدم)، وسنقتصر هنا على التعَصُّب في الدين الذي يكون بين (داخل) أبناء الدين الواحد، فهذا الذي يعنينا؛ لوجوده وآثاره السيئة داخل جماعات الصحوة الإسلامية، والذي تَفَشَّى بدرجة لا يمكن التغاضي عنها والتهاون فيها.
لاتوجد تعليقات