الإسـلام وتكوين الهويَّات في إفريقيا
يقول المولى -عزَّ من قائل-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِل لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(الحجرات: 13)، تَفيئاً بظلال هذه الآية الكريمة، يمكن القول: إنَّ من نعَم الله -تعالى- على إفريقيا تعدُّد قبائلها وتمايزاتها الإثنيَّة؛ حيث يصل تعداد الإثنيَّات في بعض دُوَلها إلى ثلاثمائة (نيجيريا مثلاً)، وهذا لا شك نعمةٌ على أمَّة الإسلام؛ حيث تتَّسع دوائر (التَّعارُف) وفُرص التَّبادُل في كلِّ رقعةٍ جديدة تخطوها قَدَمُ مسلم.
من هذا المنطلق؛ فإنَّ أيَّ محاولةٍ للبحث عن هويَّات الشُّعوب المسلمة بإفريقيا، ومعرفة مدى التَّأثير الإسلاميِّ فيها، لَمحاولةٌ مشجِّعة، وخطوة -نرجوها- مباركةٌ في مشروع (التَّعارُف) الإسلاميِّ المنصوص عليه في آية التَّعارُف الآنفة الذِّكر، وهي تفضي إلى التَّقارُب بين الشُّعوب الإسلاميَّة وتماسكها وتضامنها.
ما تتَّفق عليه مختلف التَّعريفات عن الهويَّة هو الخصوصيَّة والتَّميُّز عن الآخر، خصوصيَّة فرديَّة أو جماعيَّة، ولعلَّ من أحسن تعريفات الهويَّة الإسلامية ما قدَّمه خليل العاني بقوله: الإيمان بعقيدة هذه الأمَّة، والاعتزاز بالانتماء إليها، واحترام قيمها الحضاريَّة والثَّقافيَّة، وإبراز الشَّعائر الإسلاميَّة، والاعتزاز بالتَّمسُّك بها، والشُّعور بالتَّميُّز والاستقلاليَّة الفرديَّة والجماعيَّة، والقيام بحقِّ الرِّسالة، وواجب البلاغ والشَّهادة على النَّاس»، إنَّ هذا التَّعريف هو ما يصبو هذا المقال إلى استجلاء بعض ملامحه في هويَّة المسلم الإفريقي، سواء كان فرداً أم جماعة.
هذا، وإذا كان الباحثون قد حدَّدوا مقوِّمات الهويَّة في خمسة، هي: الدِّين، والتَّاريخ، والوطن، واللُّغة، والثَّقافة، فإنَّ ذلك يعني -فيما يعني- أنَّ الهويَّة مزيجٌ من الخصائص الثَّابتة والمتغيِّرة التي تحدِّد هويَّة الفرد أو الجماعة.
الهويَّة الإسلاميَّة بإفريقيا
نشأ لدى المسلمين في إفريقيا، وبغربِها (محور هذا المقال) -تحديداً-، وعيٌ مبكِّرٌ بهويَّتهم الإسلاميَّة، وبضرورة تميُّزها عن غيرها، وذلك منذ الفترات الجنينيَّة للإسلام بالبلاد الإفريقية، يظهر ذلك مثلاً فيما كتبه البكري (أبو عبيدة، ت 487هـ)، عن عاصمة غانة القديمة، وأنَّها مقسَّمة إلى مدينتَين: واحدة للملك تمثِّل المدينة الوثنيَّة، ولكن بها مسجدٌ للمسلمين إذا وفدوا إليه، وأخرى للمسلمين بها اثنا عشَرَ مسجداً، وأنَّ المسلمين غير ملزمين بالانحناء للملك عند إلقاء التَّحيَّة عليه، وإنَّما يكفيهم التَّصفيق، «فإذا دنا أهلُ دينه منه جَثوا على رُكَبهم، ونثروا التُّراب على رؤوسهم؛ فتلك تحيَّتهم له، أما المسلمون فإنَّما سلامُهم عليه تصفيقٌ باليدَين».
ولا شكَّ أنَّ هذا الوضع الذي تمتَّع به المسلمون (وهم أقليَّة آنذاك) في الوسط الغاني القديم، لم يحدُث عشوائياً، وإنَّما نشأ عن وعيٍ عميق، وحرص أكيد من لدُن المسلمين بضرورة حماية هويَّتهم، ومن ثَمَّ التَّعبير عن هذا الوعي والمطالبة بالحفاظ عليه.
أورد البكريُّ خبراً آخر له دلالة على حرص المسلمين في الحفاظ على هويَّتهم؛ فقال عن البزركانيِّين أهل كَوْكَو: إنَّهم «لا يُملِّكون عليهم أحداً من غير المسلمين، وإذا وليَ منهم ملكٌ دُفِع إليه خاتمٌ وسيفٌ ومصحف، يزعمون أنَّ أمير المؤمنين بعث بذلك إليهم»، فها هنا – أوَّلاً - اختيارٌ صارمٌ للزَّعيم الذي يُعدُّ المسؤول الأوَّل عن حماية الهويَّات، و -ثانياً- زعمٌ بتعبير البكريِّ، بربط علامات السَّلطنة بالأصل الإسلاميِّ العتيق.
وقد أدى هذا الوعي بالهوية والحرص عليها إلى انتشار الثقافة الإسلامية، واحترام غير المسلمين لقيم الإسلام؛ ففي خبرٍ أورده البكريُّ عن ملكٍ سودانيٍّ وثنيٍّ ببلاد الفرويِّين، كانت بأرضه نبتةٌ محفزة للشهوة؛ فأرسل إليه جاره الملك المسلم يسأله أن يُهديه شيئاً منها، فاعتذر إليه الملك الوثنيُّ، وعلَّل ذلك بأنَّه يخشى على الملك المسلم الوقوع في المحظور عليه في دينه بسبب تأثير هذا الدَّواء المفرط، وسواء كان هذا اعتذاراً لبقاً وتخلُّصاً من الملك الوثنيِّ، أم كان حرصاً منه على مراعاة القيم الإسلاميَّة؛ فإنَّه يكشف عن ثقافة إسلاميَّة كانت منتشرةً منذ تلك الفترة المبكِّرة من الوجود الإسلاميِّ ببلاد إفريقيا الغربيَّة.
مقوِّمات الهويَّة الإسلاميَّة
وفي محاولة متواضعة منَّا لاستكشاف بعض مظاهر الإسلام ومقوماته في هويَّة مسلمي إفريقيا فإنَّه يكفينا هنا الاقتصار على لقطاتٍ من التَّاريخ والثَّقافة لدى بعض القبائل في غرب إفريقيا، كالهوسا، والفولاني، والمادينغ، والولوف؛ لتعذُّر استقصاء ذلك في مقامنا هذا.
النسب الشريف
- أوَّلا: ادِّعاء النَّسب الشَّريف، أو الانتساب إلى الصَّحابة وقبائل العرب: يُعدُّ الانتسابُ إلى النَّسب النَّبويِّ الشَّريف أو إلى القبائل العربيَّة أجلى الصُّوَر الكاشفة عن الرَّغبة الجامحة لدى الأفارقة في ربط هويَّتهم بالإسلام ورموزه؛ فالسَّادة الشُّرفاء من (شَريفُو) و(حَيدَرة) يتمتَّعون بمكانة اجتماعيَّة فريدة في الوسط الإفريقي، تُضفي عليهم قدسيَّة، وتُسدي إليهم الزِّعامة الرُّوحيَّة في المجتمع، ويُلحقُ بالانتساب إلى العترة النَّبويَّة الانتساب إلى الصَّحابة الكرام، وإلى قبائل العرب قريبة العهد أو النَّسب إلى النَّبي[، وهذا الميدان هو الذي خاض فيه جميع القبائل الإفريقية تقريباً، ولعلَّ الزُّعماء والسَّلاطين أوَّل من فتحُوا هذا الباب، وخاضوا فيه.
أسماء الأعلام
- ثانياً: دلالة أسماء الأعلام على الهويَّة الإسلامية: هذا، ويُلحَق بالانتساب الجماعيِّ للقبائل الإفريقية إلى الصَّحابة والعرب، ظاهرة تبنِّي مسلمي إفريقيا الطَّوعي للأسماء (الإسلاميَّة)، ونبذ أسمائهم القبَليَّة؛ ففي هذا السِّياق - مثلاً - نجد أنَّ أوَّل الخائضين فيه هم الملوك أيضاً؛ حيث انتحل بعض أوائل الملوك أسماء خلفاء وملوك في العصور الأولى للإسلام؛ فسلاطين صونغايْ (غاوْ) مثلاً تسمَّوا بأسماء الخلفاء الرَّاشدين، ولم تُعرف أسماء بعضهم الحقيقيَّة، من ذلك ما وُجد منقوشاً على أحد الشَّواهد الرُّخاميَّة المكتشفة في غَاو عاصمة صونغاي: «هذا قَبْرُ الملك النَّاصر لدين الله، المتوكِّل على الله، أبي بكر بن أبي قُحافة -رحمَهُ الله- ونوَّر ضريحَهُ، وقدَّس روحَهُ، وجعل الجنَّة بَدله ومأواه»، (توفي ليلة الجمعة 19 رجب 503هـ / 1110م)، ووُجِدَ على شاهدٍ آخر: «هذا قبرُ الملك الأجلِّ، الرَّفيع المحلِّ، النَّاصر لدين الله، المتوكِّل على الله، القائم بأمر الله، المجاهد في سبيل الله، ماما بن كما بن اع؟ المسمَّى بعمر بن الخطَّاب -رحمةُ الله عليه»، (توفي يوم الأحد 17 محرم 514هـ / 1121م)(18).
أسماء المدن
- ثالثاً: دلالة أسماء المدن والمواقع الجغرافيَّة: ولم تقتصر هذه الظَّاهرة على الأسماء الشَّخصيَّة فحسب، وإنَّما امتدَّت إلى أسماء المدن والمواقع الجغرافيَّة، رغبةً من المسلمين الأفارقة في ربط تلك المواقع بسميَّاتها في مهبط الوحي أو في جزيرة العرب وبلادهم، لدينا مثلاً سلسلةٌ من اسم (مدينة) في معظم بلاد إفريقيا، أشهرُها (مدينة) التي حلَّت محلَّ (Timbi) القديمة في غينيا على يد الشيخ العالِم (ألْفَا يِيرو) (Alfa Yero)(24)، ولدينا مدينة (كِيرِوان) (Kerewane) في السنغال وغينيا، مراداً به القيروان، ومن أحياء عاصمة مالي الحديثة باماكو حيُّ (Bagadaji)، يراد به بغداد، وحيُّ (حمدَ الله) في باماكو، وحيُّ (دار السَّلام) في مدينة بواكي بكوت ديفوار، وحيُّ «مَاصِيرَا» (في غينيا)، و(طائِفَا) (في السنغال)، وحي (سَروجَا) مراداً به بلدة سَروج، بلدة أبي زيد السروجي بطل مقامات الحريري، وغيرها من المواقع.
التقويم الهجري
- رابعاً: تبنِّي التَّقويم السَّنويِّ الهجريِّ: كذلك، ظهر التَّأثير الإسلاميُّ في كثيرٍ من مظاهر الهويَّة الإفريقية؛ ممَّا لا مجال لتفصيله في هذا المقام، من ذلك تبنِّي التَّقويم السَّنويِّ الهجريِّ، وربط جميع مناشط الحياة بالتَّقويم القَمَريِّ، ونبذ ما كان سائداً من الأعياد الوثنيَّة المرتبطة بالتَّقويم الشَّمسيِّ، واقتراض معظم القبائل لأسامي الشهور والأيَّام العربيَّة، وربط مفردات التَّوقيت بالشَّعائر الإسلاميَّة، مثل: Suba (الصبح)، waliha-tele (وقت صلاة الضُّحى)، Sali-fana (الصلاة، الظهر)، La`ansara (العصر) بلغة المادينغ، وقل مثل ذلك في الأزياء، والفنون والآداب.
القيم الأخلاقية
- خامساً: تأثُّر المجموعات المسلمة بالإسلام في قيمها الأخلاقية والثقافية: من الإمكان أن نجزم هنا بلا تردُّد، بالقول باستحالة وجود مظهرٍ من مظاهر هويَّة الأفراد أو المجموعات المسلمة في إفريقيا (في الدِّين، والتَّاريخ، واللُّغة، والثَّقافة) غير متأثِّرٍ بالإسلام، ولعلَّ استقصاء الأثر الإسلاميِّ في مظهَرَين ثقافيَّين لدى الفولبي من جانب (مفهوم البولاكو)، ولدى الهوسا من جانبٍ آخر (مفهوم الرَّجل الصَّالح)، يوضِّح مدى تأثُّر المجموعات المسلمة العميق بالإسلام في ثقافتها، ورؤيتها للعالَم، ومدى تشكُّل هويَّتها الإسلاميَّة بناءً على تلك الرُّؤية الخاصَّة.
ملاحظات ختاميَّة
لعلَّ قراءة ما تمَّ عرضُه في الفقرات السَّابقة من لقطاتٍ مُبتسرة؛ تُفضي بنا إلى رؤية واضحة عن أثر الإسلام الدِّيناميِّ في تكوين هويَّات الشُّعوب المسلمة بإفريقيا، وتطويرها باستمرار كلَّما أوغَلَ أولئك في الدِّين الإسلاميِّ، وقد أفضى هذا التَّوغُّل ببعض القبائل -مثل المادينغ والفولْبي والهوسا- إلى التَّماهي في الإسلام، وتشابُك الخيوط المكوِّنة لهويَّتها في النَّسيج الإسلاميِّ، لدرجة صعوبة الفصل بين ما هو إسلاميٌّ، وبين ما هو غير إسلاميٍّ من مقوِّمات هويَّات تلك القبائل.
هذا - على الأقلِّ - في نظرة تلك القبائل المسلمة إلى أنفسها بوصفها مسلمة جملةً وتفصيلاً، وفي نظرة الآخرين إليها بهذا المنظار أيضاً، ومعلومٌ أنَّ نظرة الآخر هي الوجه الآخر للعملة في تحديد الهويَّة.
العلاقة العضويَّة
وحرصاً على أن يكون لما تقدَّم ذكرُه حظٌّ من الواقعيَّة؛ فلابدَّ من التَّأكيد على ضرورة توظيف هذه العلاقة العضويَّة بين الإسلام وهويَّات مسلمي إفريقيا؛ في سبيل توطيد الرَّوابط البينيَّة بينهم وبين العرب من جانبٍ، وبينهم وبين الشُّعوب المسلمة، توظيفاً يُستَثمَر ويُستغلُّ في دعم القضايا المشتركة، وتعبئة القوى، وانتزاع الحقوق التي لم تعُد تُمنح إلاَّ في ظلِّ التَّكتُّلات والتَّلاحُمات الكبرى.
ولعلَّ أمضى سلاحٍ بأيدينا اليوم هو العمل الدَّؤوب في تعزيز علاقة الشُّعوب المسلمة بدينها، وردم الخنادق التي أحدثتها مشروعات التَّضليل لتشويه الصُّوَر بينهم وبين إخوانهم تحت كلِّ سماء؛ تحقيقاً لروح آية التَّعارف المذكورة في صدر هذا المقال.
لاتوجد تعليقات