الإحسان مفهومه ومعانيه
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوما بارزا للناس؛ إذ أتاه رجل يمشي؛ فقال: يا رسول الله، ما الإيمان؟ قال صلى الله عليه وسلم: «الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائه، وتؤمن بالبعث الآخر»، قال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال صلى الله عليه وسلم: «الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان»، قال: يا رسول الله، ما الإحسان؟ قال صلى الله عليه وسلم: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه؛ فإنه يراك»، ثم سأله عن الساعة، ثم انصرف الرجل؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «رُدُّوا عَليَّ»؛ فأخذوا ليَرُدُّوا فلم يروا شيئا. فقال صلى الله عليه وسلم: «هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم». (متفق عليه).
الإحسان في عبادة الله
فهذا هو الإحسان في عبادة الله، أن تعبد الله كأنك تراه، ومن طبق هذا في عبادته، كان جزاؤه من جنس عمله، -بإذن الله تعالى- كما قال -عز وجل-: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} (الرحمن 60)، وقال -سبحانه-: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}(يونس 26)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول الله -تبارك وتعالى-: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟،» قال: «فيكشف الحجاب! فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم -عز وجل-، ثم تلا هذه الآية {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}) (رواه مسلم)؛ فالجزاء من جنس العمل، قال ابن رجب -رحمه الله-: وهذا مناسب لجعله «أي النظر إلى وجه الله -عز وجل-» جزاء لأهل الإحسان؛ لأن الإحسان هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه المراقبة لله، وحضور القلب كأنه يراه وينظر إليه؛ فكان جزاء ذلك النظر إلى وجه الله عيانا في الآخرة؛ فنسأل الله الكريم من فضله أن يكرمنا بالنظر إلى وجهه الكريم في جنات النعيم.
الإحسان إلى خلق الله
أما النوع الآخر من الإحسان فهو الإحسان إلى خلق الله، ومعناه: إيصال النفع الديني والدنيوي إلى المخلوقين، ودفع الشر الديني والدنيوي عنهم، (تفسير السعدي 1/254 للآية 134 من آل عمران)، والكل يدخل في دائرة إحسانك، وابدأ بنفسك فأحسن إليها، بفعل الطاعات، وترك المنكرات؛ فإن أول من ينتفع بإحسانك هو أنت، قال -تعالى-: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}(الإسراء 7)، ثم يأتي الإحسان إلى أقرب الناس إليك وأحقهم عليك، وهما الوالدان الكريمان، فقد أمر الله -تبارك وتعالى- بإكرامهما والإحسان إليهما بعد الأمر بتوحيده مباشرة؛ فقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (الإسراء 23)، وقال -تعالى-: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (النساء 36)، وهو أمرُه لمن كان قبلنا، كما قال -تعالى-: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (البقرة 83)؛ فلا يليق مع الوالدين إلا استخدام أرقى درجات التعامل، لا تقل لهما أف، لا تنهرهما! وقل لهما قولا كريما، واختر أحسن الألفاظ، بأحسن الأساليب، بألطف العبارات، وبألين صوت وأخفضه، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وتواضع لهما، تذللا لهما، ورحمة بهما، واحتسابا للأجر، وادع لهما أحياء وأمواتا، {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (الإسراء 24)، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد، أبتغي الأجر من الله؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «فهل من والديك أحد حي؟» قال: نعم، بل كلاهما، قال صلى الله عليه وسلم: «فتبتغي الأجر من الله؟» قال: نعم، قال: «فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما»(رواه مسلم)، وفي رواية قال له: «ففيهما فجاهد»؛ فنسأل الله -تعالى- أن يجعلنا لوالدينا من البارين.
دائرة الإحسان
ودائرة إحسانك تشمل القريبين إليك، رحِما أو جوارا، كما قال -تعالى-: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى} (البقرة 83)، أما قرابة الرحم، فقد أمر الله -تعالى- بوصلها، ونهى عن قطعها، قال -تعالى-: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} (محمد 22-23)؛ ولذلك فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصلة الرحم، وحث عليها، وبيَّن أن أقلها هو السلام على ذوي الأرحام؛ فقال: «بلوا أرحامكم ولو بالسلام» (رواه البزار - صحيح الجامع 2838)، ثم يأتي الجار المكاني الذي جاور مسكنك؛ فتحسن إليه، كما قال -تعالى-: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} (النساء 36)، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ما زال جبريلُ يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه»(متفق عليه)، وسأل رجلٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: كيف لي أن أعلم إذا أحسنتُ وإذا أسأتُ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعت جيرانك يقولون أن قد أحسنت، فقد أحسنت، وإذا سمعتهم يقولون قد أسأت، فقد أسأت»(رواه ابن ماجه).
الإحسان للمجتمع
ودائرة إحسانك تشمل مجتمعك، ولاسيما للجانب الضعيف منه، كاليتامى والمساكين وأبناء السبيل، قال -تعالى-: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا} (النساء 36)، والصاحب بالجنب الذي ذكر في الآية إن لم يقصد به الزوجة فهو يشملها؛ فهي مِن أولى الناس بإحسانك وحسن معاملتك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أكملُ المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم خلقا»(رواه الترمذي).
الإحسان في كل شيء
وبذلك لم يبق أحدٌ إلا وهو حقيقٌ بإحسانِك من جهة من الجهات، والله يحب المحسنين، بل إن دائرة إحسانك تتسع كذلك لتشمل الحياة كلها، بما فيها من حيوان، أو نبات، أو جماد؛ فقد حث النبيُّ صلى الله عليه وسلم على إحسان التعامل مع كل شيء، حتى مع الحيوان الذي أحل الله ذبحه؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسانَ على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، ولـْيُحِدَّ أحدُكم شفرته؛ فلـْيُرحْ ذبيحته»(رواه مسلم).
وهكذا الإحسان يكون في كل شيء: في عبادة الله، وفي إحسان التعامل مع خلق الله، وكم هدى الإحسانُ في التعامل ضالا عن طريق الله! وكم أصلح من علاقات بين خلق الله! فالناس تحب من يحسنُ إليها، كما تكره من يسيءُ إليها.
أحسنْ إلى الناس تستعبدْ قلوبَهُمُ فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ.
جزاء الإحسان
وتذكر جزاء الإحسان من الله؛ فقد أخبر -سبحانه- أن معيته بالنصر والتأييد ثوابٌ للمحسنين، كما قال -تعالى-: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (النحل 128)، وأخبر -سبحانه- أنه يحب المحسنين، وكفى بذلك جزاء وشرفا، قال -تعالى-: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة 195)، وذكـر -سبحانه- أنه كلما كان العبد أكثر إحسانا، كان أقرب إلى رحمة ربه؛ فقال -تعالى-: {إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف 56)، أما جزاء المحسنين في الآخرة فهو الجنة والتنعم بالنظر إلى وجه الكريم -سبحانه-: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (يونس 26)؛ فالحسنى هي الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجه الكريم -سبحانه- نسأل الله من فضله.
لاتوجد تعليقات