الأيام المشرقة بكوسوفا والنهوض المنتظر
حسن عباس التونسي لا يزال المسلمون يذكرون الحرب العنصرية وهجمة القتل والدمار البشعة والمذابح الجماعية والصراعات الطائفية, التي مرت بها كوسوفا تلك البلاد الأوروبية المسلمة التي هزت القلوب والمشاعر وهاهي ذي اليوم وبعد أن قضت ما يزيد عن عشر سنوات من الحضور الدولي المكثف والتأهيل والتأطير لإدارة دولة صغيرة لا تزيد رقعتها عن الأحد عشر ألف كلم مربع ولا يزيد تعداد سكانها عن مليونين ومائتي ألف نسمة، وبعد أن سلكوا بها طريقا وعرا ومشحونا بالمتاعب السياسية والمفاوضات القاسية والمعقدة لحل أزمات شائكة انتهت بها إلى إعلان الاستقلال يوم 17 فبراير 2008 في حدث تاريخي نادر.
وهكذا واجهت هذه الدولة الصغيرة الناشئة صعوبات جمة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكذلك الدعوية بعد أن ورثت وضعا شديد التعقيد وبالغ الخطورة، وإنها إلى اليوم لا تزال تكافح من أجل التغلب على تداعيات الحرب، والتوترات الإثنية بين الألبان المسلمين والصرب الأرثوذكس ولاسيما في مدينة (ميتروفيتسا) التي تحمل للعرقين دلالات حضارية وعمقاً تاريخياً وبعداً دينياً وقداسة روحية بالغة الأهمية.
ولقد عانت كوسوفا كثيرا نتيجة الانفصام بين تاريخها الناصع بالبطولات الإسلامية أيام الدولة العثمانية من جهة وبين جغرافيتها الأوروبية والضغط المسيحي المتواصل عليها بجناحيه الكاثوليكي الغربي والأرثوذكسي الشرقي.
وعلى الرغم من الفقر والبطالة والصراعات العرقية، والعجز السياسي، وتخلي الدول العربية عنها، فقد صنع الشباب الكوسوفي ساحة دعوية رائعة تميزت بوضوح المنهج وصفاء العقيدة ووحدة الكلمة وقلة الخلاف، فانعكس أمرهم إلى مساجد مزدحمة بالمصلين، وإلى رغبة عارمة في التحاكم إلى الكتاب والسنة وفق فهم أصيل للقرون المفضلة الأولى في كل نواحي الحياة قاده مجموعة من خريجي الجامعات الإسلامية من مختلف الدول العربية، مما ينبئ بنجاحات مستقبلية رائعة للدعوة هناك.
ولعل الأيام المشرقة على هذا البلد الصغير ستتالى بحصوله على السيادة الكاملة في شهر سبتمبر أيلول 2012 القادم، موعد نهاية الرقابة الدولية, وعندها نتطلع إلى أن تتحول كوسوفا إلى نموذج رائع لشبه الجزيرة البلقانية بأسرها في الأمن والإستقرار وفي الازدهار الدعوي الهادئ والاقتصادي المثمر.
ولقد عُدّ يوم 2 يوليو من الشهر الجاري منعطفا مهماً في رحلة الحكم الذاتي؛ حيث قامت مجموعة التوجيه الدولية بالتهيئة لاتخاذ قرارات حاسمة بشأن إنهاء إشرافها المباشر على الإدارة الكوسوفية، وقد اشترطوا لذلك أن يتبنى البرلمان الكوسوفي حزمة من الإصلاحات الدستورية، وذلك مما يعني أن انتقال السلطات الإدارية والتنفيذية كاملة إلى الممثل الشرعي للشعب الكوسوفي بات قريبا وحاسما.
والقادم إلى برشتينا العاصمة يلاحظ النهضة العمرانية الشاملة والجهود الكبرى التي بذلت في إعادة بناء الأحياء والطرق والجسور والمنشآت وكل مقومات البنية التحتية في وقت قياسي مما يعكس الرغبة العارمة لذلك الشعب الطموح وحرصه على الحياة الكريمة في دولة جديدة عصرية راقية يسودها الأمن ويحفها الإيمان.
وقد تمكنت كوسوفا من الحصول على اعترافات دولية مهمة رغم النشاط الحميم للدبلوماسية الصربية المدعومة من قبل الدب الروسي والمقاومة لنهوض تلك الدولة المسلمة الصغيرة، فقد اعترف بها إلى حد الآن 93 دولة من بينها 22دولة من الاتحاد الأوروبي الـ27، و 24 دولة من أصل 28 عضو في حلف الناتو، و30 دولة من أصل 57 من منظمة التعاون الإسلامي.
ومن أبرز مقومات القوة التي تبشر بمستقبل واعد لتلك البلاد الصغيرة، امتلاكها لثروات باطنية مهمة من المعادن، والمهارات التجارية الكبرى التي يمتلكها الشباب الكوسوفي ودخوله بجرأة وطموح في كل الميادين الاستثمارية، كما أنها تملك ثروة شبابية هائلة بالمقارنة مع باقي الدول الأوروبية؛ حيث إن 75% من سكانها تنقص أعمارهم عن الـ 35 عاما.
ولقد عمل الأوروبيون خاصة على فهم النفسية الكوسوفية وإدراك أبعاد العقلية الكاملة لذلك الشعب الذي مورس عليه القهر والإضطهاد وسياسات الإذلال بكل أنواعها ولسنين طويلة لتنتهي متوجة بتلك الحرب الغاشمة وقد صنعوا سياسات ورسموا ممارسات ظاهرها تضميد الجراح وباطنها التطبيع مع عدوهم التاريخي من الأصراب الحاقدين والمساوات بين القاتل والمقتول والمجرم والضحية فشكلوا لجانا سموها لجان الحقيقة والمصالحة لدراسة أعمال الحرب وجرائمها وردود الفعل وعمليات الثأر والانتقام التي كان يمارسها الألبان بعد الحرب ضد الصرب، والهدف من هذه اللجان هو زرع التعايش والحب بين الأعداء والقضاء على عقيدة الولاء والبراء، وعملوا جاهدين على نشر مفاهيم الولاء للوطن الواحد ونزع الاعتبارات الأخرى سواء العرقية أم الدينية ، ولكن عموم الشعب المسلم وشباب الدعوة خاصة أدرك خطورة انجراف الطبقة المثقفة لمثل هذه الدعوات، فتعاملوا مع الواقع بوعي كامل وحكمة نادرة؛ حيث دعموا الاستقرار ونزع فتيل التوترات المسلطة عليهم من الأصراب وقاوموا الاستدراج والوقوع في العنف والجر إلى المجهول أمام توازن مختل للقوى، وفي الوقت نفسه توجهوا بخطاب دعوي وتوعوي هادئ ومطمئن يحرك الإيمان ويقوي المعتقد في الله ويحيي مفاهيم الكتاب والسنة بعيدا عن المنزلقات العقدية والفكرية أو السلوكية في توازن لا يحسنه إلا من خبر القيادة واحترف الريادة فنشطت فيهم ترجمة كتب التراث وأبدعوا في الخطب والمحاضرات، واعتنوا بالدعوة العامة عن طريق الإعلام وانتاج البرامج المفيدة وبالدعوة الخاصة وتربية قطاعات كبيرة من الشباب على منهج قويم وسلوك سليم فغدت صحوة مشرّفة تسر الناظرين وتبهج المراقبين.
وهكذا سقطت الدعوات المشبوهة التي أرادت أن تحول هذا الشعب الأبي إلى حام للصرب وخادم ذليل لقضاياه أمام الضغط الدولي والانحياز العالمي الذي منح 20 مقعدا من مقاعد البرلمان من أصل 120 للأقليات منها عشرة مقاعد كاملة للصرب الذي لا تزيد نسبتهم السكانية عن الـ2 % وهم مؤازرون ومدعومون من صربيا التي ترفض دمجهم في المجتمع والدولة وتضع العراقيل أمام ذلك رغم الإغراءات الكبرى التي تُقَدَّم لهم حتى على مستوى المناصب السياسية حيث إن القانون يقلد ثلاثة من صرب كوسوفو مناصب وزارية في الحكومة في كل دورة انتخابية إضافة إلى منحهم منصب نائب الرئيس، كما أسسوا لهم مؤخرا ست بلديات صربية جديدة.
وأمام هذه النهضة الظاهرة لهذا البلد الصغير وأمام جملة التحديات والمصاعب والمشكلات يبقى الصراع قائما بين قوى إقليمية غربية تريد ابتلاع البلاد وغزوها فكريا وثقافيا ودينيا وتقضي بالتالي على مفاهيم العقيدة والولاء لأمة الإسلام وبين تيار شبابي جديد يحمل راية التوحيد ويعتز بانتمائه للإسلام ويفتخر بتاريخه الناصع، ولكنه يبقى في أمس الحاجة وأشد المطالب لإلتفاتة كريمة داعمة له معنويا وماديا تنشط همته وتقوى ضعفه وتشد من أزره إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا، والله المستعان.
لاتوجد تعليقات