الأوقاف الإسلاميّة في بيت المقدس – أوقاف صلاح الدين الأيوبي في القدس (3)
- أعاد الناصر الفاتح صلاح الدين الأيوبي الحياة إلى القدس بأن أوقف الأوقاف التي طالت كل مناحي الحياة ليصرف من ريع الأوقاف على المسجد الأقصى وتسهيل شد الرحال والمكوث في القدس
- أنشأ صلاح الدين كتّاباً لتعليم القرآن الكريم مقابل المسجد الأقصى ووقف عليه داراً للإنفاق عليه
جعل الإسلام الوقف في منزلة كبرى، بل جعله من أولويات المجتمع المسلم؛ فقد كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أول من أوقف في الإسلام أرضا على فقراء المسلمين، تلاه عثمان بن عفان - رضي الله عنه - الذي اشترى بئر (رومة)، وأوقفها على سقيا الناس، فأقر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظام الوقف، وطبقه التطبيق العملي في بناء مسجد قباء بأموال المسلمين، كما قال جابر بن عبدالله: «لم يكن أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذا مقدرة إلا وقف»، وقد تميزت مدينة القدس مثل غيرها من مدن العالم الإسلامي بكثرة الأوقاف فيها، ومن ذلك الأوقاف على الخدمات الاجتماعيّة.
ما يمكن أنْ نُفردَه باعتباره وقفًا على الخدمات الاجتماعيّة المتنوّعة، هو الخوانق والرُّبُط والزوايا، لكونها جميعاً على وجه التقريبِ تستقطبُ ذوي الحاجات من أفراد المجتمع، وأحياناً تشترطُ أنْ يكونوا على صفاتٍ خاصّةٍ من الرغبة في الانقطاع للعبادة والذّكر كما هو الحالُ في الزّوايا.أوقاف صلاح الدين الأيوبي في القدس
من روائع الناصر صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- حينما حرر القدس وفلسطين من أيدي الصليبيين، وأراد أن يعيد الحياة للقدس وليهيئ مرافقها لاستقبال من شد الرحال إلى المسجد الأقصى وجاوره بقصد، وإعادة الطابع الإسلامي لها، ولا شك أن ما قام به صلاح الدين من الأوقاف الكثيرة التي أوقفها أعاد للمدينة المباركة الحياة، وأسهم في رجوع المسلمين والاستقرار في القدس.صلاح الدين الأيوبي وإحياؤه للأوقاف في القدس
لما تطهر بيت المقدس مما كان فيه من الصلبان والنواقيس والرهبان، ودخله أهل الإيمان، ونودي بالآذان، وقرئ القرآن، ووحد الرحمن، وأقيمت أول جمعة في اليوم الرابع من شعبان، بعد يوم الفتح بثمان، فَنُصِبَ المنبر إلى جانب المحراب، وامتلأ الجامع وسالت لرقة القلوب المدامع، ولما أذن المؤذنون للصلاة قبل الزوال كادت القلوب تطير من الفرح في ذلك الحال، وعُين للخطابة القاضي محيي الدين محـمد بن زكي الدين علي. وحملت المصاحف ورممت المساجد، ولكي تستمر وتدب الحياة في المدينة، أول ما فكر فيه صلاح الدين الأوقاف، فحبس الأوقاف -بداية- التي تصرف على إمام المسجد الأقصى والعاملين فيه، ثم تتالت الأوقاف التي طالت كل ما يصلح البلاد والعباد، التي سأعرضها على سبيل المثال لا الحصر؛ لنعي كيف كانت وما زالت الأوقاف تجارة رابحة في الدارين وتنمية وبناء للاقتصاد الإسلامي. ومن المنشآت التي أقامها صلاح الدين ما يلي: 1- الخانقاه الصلاحية أوقفت للزاهدين والعابدين إيواء وتجمعًا لمجالسهم في 585 هـ، ووقف عليها السلطان طاحوناً وفرناً وحماما وحوانيت مجاورة وبركة ماء وقطعتي أرض مجاورتين وكذلك صهريجين، وتضم الخانقاه: مسجداً وغرفاً للسكن ومرافق عامة، وعين للوقفية ناظرا. 2- المدرسة الصحية أنشئت عام 583هـ ووقفها السلطان عام 588هـ، وخصصت لتدريس المذهب الشافعي، ووقف عليها الكثير من الأملاك، ومن ضمنها: سوق العطارين في القدس ووادي سلوان (جنوب شرق القدس) - حمام في باب الأسباط، وقرية عين سلوان وفرن في محلة باب حطة، ودور متفرقة في القدس، وبستان بئر أيوب وأراض أخرى. 3- البيمارستان الصلاحي حيث أمر السلطان صلاح الدين بأن تجعل الكنيسة المجاورة لدار الاستبار بيمارستانًا للمرضى - أي مستشفى - ووقف عليه مواضع وزوده بالأدوية والعقاقير؛ حيث كان علم الطب يُدّرس فيه إلى جانب ممارسته عملياً، وأوقفت 40 بيتاً وفرناً في محلة القطانين وقبواً وطاحوناً و13 دكانا في سوق الزيت و22 حانوتا في سوق الزيت و6 مخازن وصهريج كبير و16 قيراطاً من مزرعة حارة الإفرنج، وغرس زيتون تعرف بالتربة، وحكر خان الزيت مع حكر قبان الزيت، وقطعة أرض (المصرارة) ظاهر القدس منها 16 قيراطا حصة وقف البيمارستان. 4- أوقف صلاح الدين على مصالح المسجد الأقصى سوقًا لبيع الخضراوات وسوقاً لبيع القماش. 5- كتّاب تعليم القرآن الكريم: فقد أنشأ صلاح الدين (كتّاباً) لتعليم القرآن الكريم مقابل المسجد الأقصى، ووقف عليه داراً للإنفاق عليه. 6- المدرسة الخثنية: أوقف صلاح الدين المدرسة الخثنية على رجل من أهل التقوى والصلاح، جلال الدين محمد بن أحمد بن محمد الشاشي، من بعده على من يحذو حذوه. وقد وقف على هذه المدرسة في القرن العاشر دار بخط القطانين. 7- وأوقف مقبرة باب الساهرة: وكانت تسمى في السابق (مقبرة المجاهدين)، ولا تزال لليوم مقبرة للمسلمين مع اندثار قسمها الشرقي، وتعدى اليهود على أراضٍ منها. 8- المدرسة الميمونية: وقفت سنة 593هـ، ومن أوقافها قرية بيت دجن الكائنة في جبل نابلس، وفي عام 1892م جعلها الأتراك مدرسة إعدادية، وبعد الاحتلال البريطاني أصبحت مدرسة للبنات، وتوجد فيها الآن المدرسة القادسية وهي مدرسة ثانوية.إعادة الحياة إلى القدس
وهكذا أعاد الناصر الفاتح صلاح الدين الأيوبي الحياة إلى القدس بأن أوقف الأوقاف التي طالت كل مناحي الحياة؛ ليصرف من ريع الأوقاف على المسجد الأقصى وتسهيل شد الرحال والمكوث في القدس، وتوفير الطعام والشراب والمأوى والتعليم والطبابة لأهل القدس وما حولها. وعادت الحياة إلى القدس سريعًا بعد أن غُيب عنها المسلمون 91 عامًا، وهي في ظل رماح الاحتلال الصليبي، وخلال أقل من سنة كانت القدس تُقصَد ويشد إليها الرحال ويتقرب إلى الله في مجاورة المسجد الأقصى، وبفضل الله تعالى ثم فقه وحنكة الناصر صلاح الدين أعيدت الحياة الاقتصادية للقدس، وبعودتها عاد النبض لكل مناحي الحياة.
لاتوجد تعليقات