رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر 14 ديسمبر، 2021 0 تعليق

الأمور المعينة على الصبر على أذى الخلق (2)

 

ما زال الحديث موصولاً عن محاضرة الشيخ عبد الرزاق عبد المحسن البدر والتي كانت بعنوان: (الأُمُورُ الْمُعِينَةُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ)، وقد ذكرنا في المقال السابق الصبر في القرآن الكريم، ثم ذكرنا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- عن الأمور التي تعِينُ العبدَ على الصبر، وذكرنا منها: شهادة أن الله خالق أفعال العباد، وأن الذنوب سببٌ في وقوع الأذى، ومشاهدة حسن الثواب لمن عفا وصبر، والرابع أن يشهد أنه إذا عَفا وأحسنَ أورثه ذلك من سلامةِ القلب لإخوانه ونَقائِه من الغِشّ والغِلّ وطلبِ الانتقام.

الأمر الخامس: أنه ما انتقم أحدٌ قَطُّ  لنفسه إلاّ أورثَه ذلك ذُلاًّ

     أن يعلم أنه ما انتقم أحدٌ قَطُّ لنفسه إلاّ أورثَه ذلك ذُلاًّ يجده في نفسه، فإذا عَفا أعزَّه الله -تعالى-، وهذا مما أخبر به الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث يقول: «ما زاد الله عبدًا بعَفْوٍ إلاّ عزًّا»، فالعزّ الحاصل له بالعفو أحبّ إليه وأنفع له من العزّ الحاصل له بالانتقام، فإنّ هذا عِزٌّ في الظاهر وهو يُورِث في الباطن ذُلاًّ، والعفوُ ذُلٌّ في الباطن وهو يورث العزَّ باطنًا وظاهرًا.

ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزا

     وهذا كلام عظيم جدا ذكره -رحمه الله تعالى- في تفسير هذا الحديث «ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزا»؛ فهنا من الأمور التي تعين العبد على الصبر على الأذى أن يعلم أنه ما انتقم أحدٌ قط لنفسه إلا أورثه ذلك ذلُا يجده في نفسه، وإذا عفا أعزه الله -سبحانه وتعالى- بما حصل منه من عفو، تأمل واقع الناس العملي مع هذا الأمر، أكثر الخلق يظن أن العز إنما هو بأخذ الثأر وبالانتقام، وأن عدم الأخذ بالثأر من الذل، «كيف يكون يفعل كذا وكذا ولا أنتقم منه هذا ذل «؛ فأكثر الخلق يظن أن العز في الثأر والأخذ بالثأر والانتقام، بينما العز الحقيقي في العفو، «ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا».

بيان جميل

     وانظر هذا البيان الجميل من شيخ الإسلام يقول: «العز الحاصل له بالعفو أحب إليه وأنفع من العز الحاصل له بالانتقام؛ فإن هذا عز في الظاهر، وهو يورث في الباطن ذلا، بينما العفو ذل في الباطن يُظن فيمن عفا أن هذا ذل وهو في الحقيقة يورث العزة باطنا وظاهرا».

الأمر السادس: أن يَشهدَ أن الجزاء من جنس العمل

     أن يَشهدَ أن الجزاء من جنس العمل، وأنه نفسه ظالمٌ مذنب، وأنّ من عَفا عن الناس عَفَا الله عنه، ومن غَفَر لهم غَفَر الله له، فإذا شَهِدَ أن عفوه عنهم وصفحَه وإحسانَه مع إساءتِهم إليه سببٌ لأن يجزيه الله كذلك من جنس عمله فيعفو عنه ويصفح ويُحسِن إليه على ذنوبه، ويَسْهُل عليه عفوُه وصبرُه، ويكفي العاقلَ هذه الفائدةُ.

     أن يشهد أن الجزاء من جنس العمل؛ فإذا عفوت عن الناس عفا الله عنك؛ لأنك أنت مخطئ وأنت عندك ذنوب وتقصير في حق الله -سبحانه وتعالى-، فالجزاء من جنس العمل؛ «الجزاء من جنس العمل» هذه قاعدة شرعية دلت عليها نصوص كثيرة جدًا وهي في الثواب والعقاب، فإذا كان من عملك الصالح العفو جازاك الله على عفوك عفوًا منه -سبحانه وتعالى- عليك، والله -سبحانه وتعالى- يحب العافين عن الناس، فإذا عفوت عن العباد في أذاهم لك رغبة فيما عند الله جازاك الله -سبحانه وتعالى- من جنس عملك فعفا -سبحانه وتعالى- عنك.

الأمر السابع: من اشتغل بالانتقام لنفسه ضاعَ عليه زمانُه وتفرَّقَ عليه قلبُه

     أن يَعلم أنه إذا اشتغلتْ نفسُه بالانتقام وطلب المقابلة ضاعَ عليه زمانُه وتفرَّقَ عليه قلبُه، وفاتَه من مصالحِه ما لا يُمَكِن استدراكُهُ، ولعلّ هذا أعظم عليه من المصيبة التي نالتْه من جهتهم، فإذا عفا وصَفحَ فَرغَ قلبُه وجسمُه لمصالحه التي هي أهمُّ عنده من الانتقام.

ملحظ مهم

     وهذا أيضا ملحظ مهم في باب الأمور المعينة على الصبر على أذى الخلق، أن الإنسان لو اشتغل بالانتقام، وبدأ يخطط ويرتب ويعمل على الانتقام، هو في الحقيقة بهذا الوقت الذي أهدره من عمره وضيعه من عمره، يكون فوَّت جزءًا من زمانه عن أمور هي أنفع له من هذه الأمور التي اشتغل بها، سواءً من مصالحه الدينية أو الدنيوية ؛ فلهذا ينبغي للعبد أن يطمئن نفسه ويقول: بدل من أن أضيع أوقاتا وجهود في الأذى أعفو لله -سبحانه وتعالى- أو أصبر على هذا الأذى التماسًا لما عند الله وأحفظ وقتي، فالصبر على أذى الخلق باب من أبواب حفظ الوقت وعدم إضاعته.

الأمر الثامن: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -ما انتقمَ لنفسِه قَطُّ

     إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما انتقمَ لنفسِه قَطُّ، فإذا كان هذا خيرَ خلق الله وأكرمَهم على الله لم يَنتقِمْ لنفسِه، مع أن أَذَاه أَذَى الله، ويتعلّقُ به حقوق الدين، ونفسه أشرف الأنفُس وأزكاها وأبرُّها وأبعدُها من كلّ خُلُقٍ مذمومٍ، وأحقُّها بكل خُلُقٍ جميلٍ، ومع هذا فلم يكن يَنتقِم لها، فكيف يَنتقِمُ أحدنا لنفسِه التي هو أعلم بها وبما فيها من الشرور والعيوب، بل الرجل العارف لا تُساوِي نفسُه عنده أن ينتقم لها، ولا قدرَ لها عنده يُوجِبُ عليه انتصارَه لها.

نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - أشرف الأنفس

     على المرء أن ينظر في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد جعله الله -سبحانه وتعالى- قدوة للعباد كما قال الله -تعالى-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب:21)، فإن نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - أشرف الأنفس وأزكاها وأطيبها وأرفعها مقاما، وما انتقم النبي - صلى الله عليه وسلم - لنفسه قط، وما غضب لنفسه - صلى الله عليه وسلم - قط إلا أن تنتهك حرمات الله؛ فإنه لا يقوم لغضبه شيء -صلوات الله وسلامه عليه-، لكن لم يذكر في سيرته انتقام للنفس أو غضب النفس مع أنه - صلى الله عليه وسلم - أوذي في مرات عديدة أذى عظيما؛ فلم يُنقل في سيرته العطرة -صلوات الله وسلامه عليه- أنه انتقم لنفسه قط، فإذًا من الأمور التي تعينك على الصبر على أذى المخلوقين أن تنظر في هذه السيرة العطرة (سيرة نبينا الكريم - صلى الله عليه وسلم )، وأن تجاهد نفسك على حسن الاقتداء بهديه -صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

الأمر التاسع: من أوذي في الله فأجره على الله

     إذا أُوذِيَ المرء على ما فعلَه لله أو على ما أُمِرَ به من طاعتِه ونُهِي عنه من معصيتِه وجبَ عليه الصبرُ ولم يكن له الانتقام، فإنّه قد أوذِي في الله فأجرُه على الله، ولهذا لمّا كان المجاهدون في سبيل الله ذهبتْ دماؤهم وأموالُهم في الله لم تكن مضمونةً، فإن الله اشترى منهم أنفسهم وأموالهم، فالثمن على الله لا على الخلق، فمن طلبَ الثمنَ منهم لم يكن له على الله ثمنٌ، فإنه من كان في الله تَلَفُه كان على الله خَلَفُه، وإن كان قد أُوذِي على مصيبة فليَرجعْ باللومِ على نفسِه ويكون في لَومِه لها شُغْلٌ عن لَومِه لمن آذاه، وإن كان قد أُوذِي على حظّ فليُوطِّن نفسَه على الصبر، فإنّ نيلَ الحُظوظِ دونَه أمرٌ أَمَرُّ من الصَّبر، فمن لم يصبر على حرِّ الهَوَاجر والأمطارِ والثلوج ومشقةِ الأسفارِ ولصوصِ الطريقِ، وإلاّ فلا حاجةَ له في المتاجرة. وهذا أمر معلوم عند الناس أنّ مَن صدَقَ في طلب شيء من الأشياء بذل من الصبر في تحصيله بقدر صدقِه في طلبِه.

هنا بين الشيخ أنَّ أذى الخلق للعبد يكون على حالات أهمها ما يلي:

الأول: الأذى في الدين

     إما أن يكون أذى منهم لهم فيما يتعلق بالدين، مثل أن يأمر بمعروف أو ينهى عن المنكر، أو يدعو إلى الله، أو يعلِّم الناس الخير فيؤذونه لأمره بالمعروف أو لنهيه عن المنكر أو لدعوته إلى الله ؛ فهذا أوذي في سبيل الله فلا ينتقم منهم بل يبغي ما عند الله؛ لأن هذا في سبيل الله وأذًى حصل له في طاعة الله، فيطلب ما عند الله -سبحانه وتعالى-، فيصبر على أذاهم؛ لأن هذا الأذى في الله وفي طاعة الله -سبحانه وتعالى- فيرجو به ما عند الله -سبحانه وتعالى.

الثاني: أذى في مصيبة

وإن كان قد أوذي على مصيبة فليرجع باللوم على نفسه ويكون في لومه لها شغلٌ عن لومه لمن آذاه، وهذا نوع آخر من الأذى.

الثالث: الأذى على حظ من حظوظ الدنيا

     إن كان قد أوذي على حظ من حظوظ الدنيا فليوطن نفسه على الصبر، مثل ما يوطن أصحاب التجارة والمرابحات وطلب المكاسب أنفسهم على الأذى الذي يحصل لهم في سبيل ما يؤمِّلونه ويرجونه من أرباحهم، والمؤمن أولى بذلك وأحرى.

الأمر العاشر: أن يَشهدَ معيَّة الله معه إذا صَبَر

     أن يَشهدَ معيّة الله معه إذا صَبَر، ومحبَّهَ الله له إذا صَبَر، ورِضاه. ومن كان الله معه دَفَع عنه أنواعَ الأذى والمضرَّات ما لا يَدفعُه عنه أحدٌ من خلقِه، قال -تعالى-: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال:46)، وقال -تعالى-: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (آل عمران:146).

     أن يشهد معية الله معه إذا صبر ومحبة الله له إذا صبر ورضاه عنه إذا صبر، وهذا كله جاء في آيات {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال:46)، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (آل عمران:146)؛ فينظر في هذا الثواب وينظر في هذه المعية وهذه المحبة محبة الله -سبحانه وتعالى- للصابرين، فيشغله هذا النظر عن طلب الانتقام، فيصبر على أذى المخلوقين، يقول أصبر حتى أكون ممن يحبهم الله {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}، يقول أصبر حتى أحظى بمعية الله لي {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} فأصبر حتى أحظى بهذه المعية معية الله لي وهي معية خاصة، تختلف عن المعية العامة {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}(الحديد:4) هذه معية خاصة فيها النصر، وفيها الحفظ، وفيها التوفيق، وفيها التسديد، وفيها المعونة، وفيها الخير والبركة ؛ فيوطن نفسه على الصبر حتى يفوز بهذه المعية ويفوز بهذه المحبة.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك