الأمم المتحدة: مليار إنسان تجاوزوا سن الستين – كيف حفظ الإسلام للمسنين حقوقهم وأكرم شيبتهم؟
يصادف الأول من أكتوبر اليوم العالمي للمسنين من كل عام، في ظل تغيرات جذرية على التركيبة السكانية في العالم خلال العقود الأخيرة، فبحسب بيانات الأمم المتحدة ارتفع العمر المتوقع في أنحاء العالم من 46 عاماً إلى 68 عاما، ويتوقع أن يزيد ليبلغ 81 عاماً مع نهاية القرن.
وتشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن عدد النساء المسنات يفوق عدد الرجال في الوقت الحالي بما يقدّر بنحو 66 مليون نسمة فيما بين السكان الذين تبلغ أعمارهم 60 سنة أو أكثر. ومن مجموع مَن بلغوا 80 سنة أو أكثر، يصل عدد النساء إلى ضِعف عدد الرجال تقريبا، ومن بين المعمّرين الذين بلغوا من العمر مائة سنة يصل عدد النساء إلى ما بين أربعة أو خمسة أضعاف عدد الرجال. وللمرة الأولى في تاريخ البشرية، وسيزيد عدد الأشخاص الذين تجاوزوا الستين عن عدد الأطفال في العالم في عام 2050، ويبلغ عدد من تجاوزوا سن الـ60 عاما ما يقارب مليار إنسان.
رعاية فائقة
الداعية الدكتور أحمد الملاد افتتح حديثه لـ(الفرقان) بالإشارة إلى أن الإسلام أولى كبير السن رعايةً بالغةً، فاقت القوانين في عصرنا الحاضر، وتقدمت عليها، وحذر الإسلام من إساءة معاملة الكبيرسواءٌ أكانت فعليةً أم قوليةً أم معنويةً، روى البخاري في الأدب المفرد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس منا من لم يُوَقِّرْ كبيرَنا»، وفي لفظ آخر: «ليس منا من لم يعظم كبيرنا».
وعيد شديد
ويوضح الملاد أن هذه الصيغة (ليس منا) فيها وعيد شديد لمن لم يحترم كبير السن، وإذا أردت أن تعرف عظيم قدر الكبير فيكفيك أن تعلم أن ديننا الحنيف جعل تقدير الكبير واحترامه وتبجيله وتوقيره من إجلال الله -سبحانه وتعالى-، فقد روى أبو مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رضي الله عنه - عن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ». رواه أبو داود، والمعنى: «إِنَّ مِن إجلالِ الله»؛ أي: من تبجيله وتعظيمه، «إكرام ذي الشيبة المسلم»؛ أي: تعظيم الشيخ الكبير في الإسلام، بتوقيره في المجالس، والرفق به، والشفقة عليه، ونحو ذلك، كل هذا مِن كمالِ تعظيم الله، لحرمة كبير السن ومكانته عند الله -سبحانه.
مظاهر وسمات
ويضيف الملاد: وتوقير كبير السن واحترامه ليس ادعاءً، وإنما له مظاهر وسماتٌ بينها الإسلام على لسان رسول الرحمة - صلى الله عليه وسلم -. ومن مظاهر احترام الكبير وتوقيره أن يُصَدَّرَ في المجلس ويوسّع له فيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يوسع المجلس إلا لثلاثة: لذي سن لسنه، وذي علم لعلمه، وذي سلطان لسلطانه». ومن المظاهر أيضا ألا يتقدم الصغير على الكبير في الحديث، روى البخاري أنه لما قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ، جَاءَ ابنُه عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَحُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَتَكَلَّمُوا فِي أَمْرِ صَاحِبِهِمْ، فَبَدَأَ ابْنُ القتيل: عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ أَصْغَرَ القَوْمِ، فَقَال لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «كَبِّرِ الكُبْرَ» - قَال يَحْيَى: يَعْنِي: لِيَلِيَ الكَلامَ الأَكْبَرُ. فانظر كيف منع الإسلام الصغير من أن يتقدم على كبار السن في الحديث مع أن المتحدث هنا هو ابن الميت، ويستشهد الملاد بحادثة قدوم وفد جهينة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام غلام يتكلم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مه فأين الكبر؟».
إمامة الصلاة
ويقول الملاد: ومن المظاهر التي ندب إليها الإسلام في حُسْن التعامل مع كبير السن أن يقدم في إمامة الصلاة إذا كان متقنا للفاتحة، فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم»، ومنها أيضًا: عدم التقدم على الكبير في تناول الطعام والشراب حتى يبدأ هو بذلك، فقد روى عكرمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سقى قال: «ابدؤوا بالأكابر».
أروع الأمثلة
وقد سطر صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أروع الأمثلة في احترام الكبير وتوقيره، ومن ذلك ما رُوِيَ أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان جالسا عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدخل أبو بكر فقام عليٌ وأجلس أبا بكر مكانه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل».
أعجب ما اطلعت عليه
ويضيف الداعية الملاد: من أعجب ما اطلعت عليه في هذا الباب ما رواه ابن ماجة عن جابر، قال: لما رجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهاجرة البحر، قال: «ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟» قال فتية منهم: بلى، يا رسول الله، بينا نحن جلوس مرت بنا عجوز من عجائز رهابينهم، تحمل على رأسها قلة من ماء، فمرت بفتى منهم، فجعل إحدى يديه بين كتفيها، ثم دفعها فخرت على ركبتيها، فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت التفتت إليه، فقالت: سوف تعلم يا غدر إذا وضع الله الكرسي، وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل، بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدا، قال: يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صدقت، صدقت كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟!، رواه ابن ماجة وحسنه الألباني.
وصية للشباب
ويوصي الملاد الشباب بوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنس - رضي الله عنه -، فقد قال له: «يا أنس وَقِّر الكبير وارحم الصغير ترافقني في الجنة». ليس هذا فحسب، فكما أنك تنال الدرجات الرفيعة في الآخرة بصحبة الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم-، فإنك تنال عظيم المكرمات، وتجني ثمار إحسانِك للكبير في الدنيا، ولعل أعظم ثمرة يجنيها العبد أن ييسر الله له من يوَقِّرُه ويقدره عند كِبَر سنه، فقد ثبت عند البيهقيِّ من حديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما أكرم شابٌ شيخا لسنه إلا قيَّضَ الله له من يكرمه عند كِبَرِ سنه»، والمتأمل في الحديث يجد أن لفظة (شيخًا) جاءت نكرة، وقد تقرر عند الأصوليين أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم، فالشيخ هنا يشمل كبير السن سواءٌ أكان بعيدا أم قريبا، مسلما أم كافرا، له مكانة في المجتمع أم ليس كذلك، وهذا الأثر يؤيده عموم نصوص الشريعة من أن الجزاء من جنس العمل، وأن الإنسان كما يدين يدان.
ومن ذلك أيضًا توقير الناس لك في الدنيا، قال نبي الله ذو النون: «ثلاثة من أعلام الوقار: تعظيم الكبير، والترحم على الصغير، والتحلم على الوضيع».
لا خير ولا بركة
ويختم الملاد حواره لـ(الفرقان) فيقول: لا خير ولا بركة في شخص ليس له كبير، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «البركة مع أكابركم»، وهذا عند البيهقي، وعند البزار عن ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْخَيْرُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ»، فإذا أردت الخير والبركة والثناء الحسن وتوقير الناس لك في الدنيا فالزم كبير السن وأحسن إليه، وإذا أردت أعلى الجنان بصحبة سيد ولد عدنان؛ فالزم كبير السن وأحسن إليه، وفقني الله وإياك لما يحب ويرضى من الأقوال والأفعال.
احتياجات المسن النفسية
أما الكاتبة التربوية الدكتورة مها الجيلاني فقد أكدت في حديثها للفرقان بالقول: إن الكبار بركة البيت، بهجة الذاكرة، وبستان التاريخ، ومخزن الخبرة، ولا ينبغي أن يهمل وجودهم مثل قطعة أثاث قديمة أو كتاب أغبرت صفحاته، بل ينبغي الاستضاءة بفكرهم والاستنارة بخبراتهم وتعلم فقه معاملة الكبار واحترامهم واقتناص هذه الفرصة، فليس الكل يحظى بالبركة في بيته، وهم على عظيم تجربتهم يعودون صغارا في مشاعرهم، تخدشهم الكلمة، ويجرحهم سوء التصرف من تجاهل وجودهم أو غيره مما يصدر عن جهل وعدم استيعاب لهم، ولما يشعرون به من ضيق لتناقص قدراتهم الجسدية ووهن قواهم عما كانوا عليه حين كانوا في مقتبل الأعمار.
رسالة للشباب
وتضيف الجيلاني في رسالة للشباب: من واجب المسنين علينا أن نوسع صدورنا لحكاياتهم، والسرد التاريخي الذي يعرفونه ونجهله، لذكرياتهم عن الناس وكيف كانت المدينة والقرية، وعدم التشاغل بالهاتف ووسائل التواصل؛ فهذا يزعجهم ويؤثر على حالتهم النفسية والمعنوية.
من المثير للحزن
وأضافت الجيلاني: من المثير للحزن أن يودع بعضهم المسن في دار العجزة؛ ليعد الأيام وحين يصدِّرونك بعيدًا عنهم، منفيًا في آخر محطاتك، تنتظر زيارتهم، مثل عربة قطار قديمة لطالما حملتهم في حلها وترحالها وطافت بهم أرجاء الدار، ولو كان لهم عذر -ولا عذر يشفع-، لجاؤوا يحملون لهفتهم إليك، وأنت تقبع في مكان (زيارة) يقضي أيامه محاولاً التماسك كطفل وجد نفسه وحيداً في يومه الأول في المدرسة ومشاعر الانفصال وهواجس الهجران تطغى عليه، يلوم نفسه وجسده الذي يخذله رغماً عنه، في يوم كان ملجأهم إذا غضبوا، واليوم يلجأ لجدران غرفة ما في مكان ما لا تنتمي إليه، وجوه وأيادٍ غريبة تصافح وجهه وتقيس حاجات جسده، ولكنها لا تستشعر حاجات روحه، و زوّار موسميون يفرغون عطفهم لا عاطفتهم عليه، كان يوما شابا ذا طلة، وكانت فتاة ذات محيا، ثم محا الزمن كل المعالم وترك على ظهورهم علامات الانكسار.
لاتوجد تعليقات