رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 23 أبريل، 2017 0 تعليق

الأفاق المستقبلية للقطاع الثالث عالميا الحلقة (3)

 نهض القطاع الثالث في تاريخنا الإسلامي، وضمن من خلال تنوعه وحجمه وضوابطه لحضارتنا الإسلامية في الازدهار عمراً لم تماثلها فيه حضارة من الحضارات، وكان سياجاً في حماية الأصول المالية، وضماناً لاستمرار عطائها لأجيال عديدة، وقد ترك القطاع بمؤسساته ومخرجاته بصمات لا تُمحى في صفحات التاريخ الإسلامي؛ لذلك نعرض في حلقات للإصدار الأخير لمركز ابن خلدون للدراسات الإستراتيجية الذي جاء بعنوان: (القطاع الثالث ودوره في تحقيق التنمية المستدامة)، الذي تولى كتابة مباحثه ثلة من المختصين والباحثين في مجال العمل المجتمعي من خيري ووقفي وتنموي، واليوم مع الحلقة الأولى بحث الدكتور محمد السلومي بعنوان: (القطاع الثالث مقوماته ودوره الحضاري).

 

تنبع أهمية الكتابة عن ملامح مستقبل القطاع الثالث عالمياً والقطاع الثالث الإسلامي خاصة، من ظاهرة القلق وشغف الناس بالتعرف إلى المستقبل والبحث عن أجوبة لما ينتظرهم من خير وشر، وليعالج ذلك بالإقبال على الله، ثم من خلال مراكز الدراسات وقراءة المستقبل من الأدلة والأرقام والإحصاءات والمؤشرات. إن ما ورد سابقا يؤكد أهمية الدراسات المستقبلية المستندة إلى واقعية البحث العلمي ومقتضياته في تناول هذا الموضوع المهم والحيوي، وعرض هذه الرؤية المستقبلية في هذا الفصل يستوجب أن تكون شاملة بشقيها الإيجابي والسلبي، علها تكون حافزاً للمزيد من الدراسات والأبحاث حولها، ولاسيما من المراكز المتخصصة.

الرؤية الإيجابية (معطيات ومؤشرات)

     يلاحظ المتابع لحركة التاريخ بعد الحرب العالمية الثانية أن القوة المحركة والمؤثرة كانت القوة العسكرية، ثم أصبحت القوة السياسية، لتتبعها بعد ذلك القوة الاقتصادية بمساندة قوية من ثقافة وسائل الإعلام ومراكز المعلومات، وكلها قوي محركة ولا تزال، ونقطة ضعفها أنها قوى غير مرغوب فيها لدى كثير من الأمم والشعوب؛ لأنها في غالب أمرها أصبحت على حساب الإنسان وقيم العدالة والحرية، وعلى حساب معظم احتياجات الإنسان الروحية والاجتماعية والخدمية.

     وتأتي أهمية عرض هذه الرؤية –بجانبها الإيجابي- مقدمة على الجانب السلبي لتعطي تصوراً لما يمكن عدّه القوى الجديدة المرشحة للتغيير أو التأثير في عالم القرن الحادي والعشرين بطريقة منافسة للقوة السياسية أو الاقتصادية، وذلك على مستوى القيم والقبول والولاء والتفاعل الشعبي والأثر الإيجابي الكبير للأسباب والمعطيات أو الاعتبارات والمؤشرات التالية في هذا الفصل، فضلا عن الحقائق المستقبلية في الفصل الذي يليه:

- الأول: ضعف مصداقية القطاعات الحكومية: تظهر استطلاعات الرأي في الدول الغربية أن مستويات الثقة في الحكومة منخفضة ويبدو أن الناس يلاحظون أن المعلومات التي يجري الحصول عليها من المصادر غير الحكومية جديرة بالثقة أكثر من المعلومات الصادرة عن الحكومات، وفي ذلك تقول آن فلوريني عن القوة الثالثة: «أظهرت دراسات عدة تضاؤل معدلات الثقة بالحكومات وانخفاض مستويات الرضا عن أداء النظام في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية خلال العقود الأربعة الماضية، وبالمقابل يبدو أن الرأي العام يضفي على منظمات المجتمع المدني سلطة أخلاقية.

     وورد في تقريرين متتابعين لمجلة (نيوستيتسمان) البريطانية: قبل جيل من الآن كان ثلاثة ملايين ونصف المليون من البريطانيين ينتمون إلى حزب من الأحزاب البريطانية، هذا الرقم انخفض اليوم إلى نصف مليون... تراجع الأحزاب لم يأت من عزوف الناس عن المساهمة في المشاريع العامة... حوالي 40 % من السكان في بريطانيا لهم عضوية  خيرية، وحوالي ثلاثة ملايين ممن تتراوح أعمارهم بين 18- 24 -وهي الشريحة العمرية التي تنأى عادة عن عملية التصويت- تقوم بعمل تطوعي في كل عام، في حين أن نسبة 81 % من البريطانيين البالغين تبرعوا لضحايا (تسونامي)، كما يفوق عدد أعضاء المؤسسة الخيرية الوطنية مجموع أعضاء الأحزاب السياسية مجتمعة).

وعلى صعيد ضعف مصداقية الحكومات كتبت الباحثة البريطانية (هيرتس) فقالت: ولا عجب أن كان نجم السياسيين قد أخذ في الأفول؛ فالناس يدركون تضارب مصالح السياسيين وعدم استعدادهم لتبني قضايا الناس، ومن ثم ينفضون عن السياسة بالجملة.

وأضافت أن «التسعينيات اتسمت بانخفاض نسبة المقترعين وانخفاض نسبة المنتسبين للأحزاب، وكان تقييم رجال السياسة؛ من حيث الجدارة بالاحترام أدنى من تقويم حرس أماكن وقوف السيارات».

     لقد غدا الناس –اليوم- أقل ثقة بالمؤسسات الحكومية مما كانوا عليه قبل عشر سنوات، وفي الانتخابات العامة التي جرت في بريطانيا عام 2001 م لم تزد نسبة المقترعين على 49 % وهو أدنى إقبال منذ الحرب العالمية الثانية، أما في الولايات المتحدة الأمريكية فإن نسبة الاقتراع الذي جرى في السنوات الست الماضية لم تشهد مثيلاً لها خلال قرنين؛ حيث امتنع عن التصويت بحرية كثير من المواطنين الأمريكيين.

     وتشير (هيرتس) إلى أن عدد أعضاء الأحزاب السياسية في ألمانيا وفي فرنسا والولايات المتحدة أقل منه –الآن- من أي وقت مضى منذ الحرب العالمية، ويمكن أن يقال مثل هذا تقريباً عن أي بلد في العالم المتقدم؛ فعلى سبيل المثال كان حزب العمال في بريطانيا في الخمسينيات يضم نحو مليون عضو، وقد هبط هذا العدد إلى 360 ألف عضو،  وهبط عدد أعضاء حزب المحافظين في تلك المدة نفسها من 2.8 مليون إلى ما يقل عن نصف مليون عضو، وبالمقارنة تضم الآن الجمعية الملكية لحماية الطيور ما يزيد عن مليون عضو.

     لقد أصبح المانحون –دولاً كانوا أم مؤسسات أم أفراداً- لا يثقون بقدرات الإدارات الحكومية على تنفيذ برامج المنح والتبرعات والإعانات وكثير من مشروعات التنمية بقدر الثقة بالمؤسسات الشعبية والمنظمات غير الحكومية، سواء الثقة بالإدارة أم بالأمانة، لقد تراجعت بعض القيادات الشعبية السياسية عن إسهاماتها في العمل السياسي التقليدي الحزبي لتنضم إلى برامج العمل الخيري؛ حيث إنه منافس بالمصداقية والعطاء.

     ويتأكد هذا في ملاحظة أن بعض القيادات السياسية الغربية، ولاسيما الأمريكية يلتحقون بمؤسسات القطاع الثالث (الخيري) بعد ترك المناصب السياسية، كما حصل من الرئيس (كارتر) الذي تخصص في القرن الإفريقي. وتخصصت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة (مادلين أولبرايت) في رئاسة مجلس إدارة معهد ndi المعني بنشر الديمقراطية في العالم وهكذا، وقد يكون ذلك للحصول على حسن السيرة والسلوك أو العمل على مالم يستطع فعله في المناصب السياسية.

     فعلى مستوى الحكومات أصبحت ظاهرة تقديم المصالح السياسية أو الاقتصادية على الحقوق الإنسانية عالمياً ظاهرة بارزة، حينما جرى تجاهل القيم والأخلاق وانتهاك القوانين الدولية العادلة من قبل كثير من الحكومات عموما (الشمال والجنوب) على حد سواء،فضلا عن فقدان تلبية متطلبات المرحلة التاريخية الجديدة للإنسان أو ضعفها، وقد سقط الأنموذج الغربي للحرية والعدالة؛ حينما تم العمل بقوانين الإرهاب الجديدة وإجراءاته ومنها قانون التجريم بالمخالطة وقانون (باتريوت)، وقوانين التجسس على المواطنين، وأنشأت سجوناً تمارس فيها كل ما يتعارض مع الحرية والعدالة، بل إن الحروب على أفغانستان والعراق وفي فلسطين ولبنان واستخدام ملايين القنابل العنقودية أسقطت قيماً كثيرة من دول الغرب وحكوماته، حينما قامت بمصادرة أبسط حقوق الإنسان، وتجاهلت خصوصيات الشعوب وحقوق البيئة، فضلا عن سلب الحرية والعدالة والديمقراطية، ولاسيما عن تلك الشعوب التي ازدادت فيها حالات الفقر والمرض والصراع الداخلي! وهذا يؤكد بدوره توجه الشعوب عالمياً إلى زيادة المنظمات غير الحكومية ومضاعفة فعاليتها ودعمها دعماً قوياً لتقديم قيماً أفضل من قيم الحكومات.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك