رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: إبراهيم بن محمد صديق 18 سبتمبر، 2022 0 تعليق

الأصول العقليَّة الدالة على وجوب تقديم فهم الصحابة على من جاء بعدهم (3)

ما زال حديثنا موصولاً عن الأصول العقليَّة الدالة على وجوب تقديم فهم الصحابة على كل من جاء بعدهم، وتحدثنا عن الأصل الأول وهو التَّعايش مع الوحي، وهذه ميزة اختصوا بها دون غيرهم؛ حيث تلقوا القرآن غضا طريا من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، ثم ذكرنا الأصل الثاني وهو: بناؤهم المنهجي ووجود الضامن، بمعني أن الصحابة -رضوان الله عليهم- بنوا فهمهم على معايشة النص الشرعي ومعرفة كل ما يحيط به، والأصل الثالث: الاختصاص والملازمة، والأصل الرابع: السلامة اللغوية، واليوم نستكمل الحديث عن تلك الأصول.

الأصل الخامس: بعدهم عن الأثقال المعرفية

      الصَّحابة -رضوان الله عليهم- كانوا أبعد عن الأثقال المعرفية ممَّن جاء بعدهم، وأعني بالأثقال المعرفيَّة: العلوم الكثيرة التي أحيطت بالنَّص الشرعي، ولأجل فهمه بالنِّسبة لمن جاء بعد الصَّحابة، فالصَّحابة قد خصَّهم الله بتوقُّد الأذهان وفصاحة اللسان، وبعدهم عن الأثقال المعرفيَّة من العلوم الأخرى، فلا يحتاجون إلى الاشتغال بعلوم أخرى بغية الوصول إلى فهم النَّص، ومن ذلك مثلًا: أنَّهم ليسوا بحاجةٍ إلى علم اللغة والصرف وما إلى ذلك، وليسوا بحاجة إلى علم الرجال والإسناد والعلل والجرح والتعديل، ولا يحتاجون إلى النَّظر في قواعد الاستنباط، بل أغناهم الله عن ذلك كلِّه، فكانوا يأخذون النَّص مباشرةً من النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، ويفهمونه بما حباهم الله من فطرة صحيحة، ولغة سليمة.

ضبط الفهم الصحيح

      والصَّحابة وإن كانوا أعملوا كثيرًا من هذه العلوم التي كتبت فيما بعد، إلا أنَّ المتأخرين تحملوا ثقلها، وذلك لبُعدهم عن عصر الصحابة، وحاجتهم الماسة إلى ضبط الفهم الصحيح، كما أنَّهم ليس لهم بدٌّ من النَّظر في الأسانيد والرجال والعلل ومعرفة الصَّحيح والضعيف، إلى غير ذلك، ولا يعني ذلك أنَّ المتأخرين لا يمكنهم أن يصلوا إلى فهم صحيح؛ كلا، وإنما المراد أنَّ الصحابة كانوا أقرب إلى الحق؛ لأنَّهم تخلصوا من هذا كله، فإن كان المتأخر مع كل هذه القيود يستطيع الوصول إلى الفهم الصحيح، فالصَّحابة أولى، كما لا يمكن أن يصل المتأخر إلى قول يبطل به فهم الصحابة لنصٍّ شرعي لهذه الأمور التي دخلت في العلم فصعبت الوصول.

كلامٍ بديعٍ لابن القيم

      وقد عبَّر ابن القيم -رحمه الله- عن هذا الأصل بكلامٍ بديعٍ أنقله بطوله لأهمِّيته، يقول -رحمه الله-: «أمَّا المدارك التي شاركناهم فيها من دلالات الألفاظ والأقيسة فلا ريب أنهم كانوا أَبرَّ قلوبًا، وأعمق علمًا، وأقل تكلّفًا، وأقرب إلى أن يوفَّقوا فيها لما لم نوفق له نحن؛ لما خصَّهم اللَّه -تعالى- به من توقّد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك وسرعته، وقلَّة المعارض أو عدمه، وحسن القصد، وتقوى الرب -تعالى-، فالعربية طبيعتهم وسليقتهم، والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرهم وعقولهم، ولا حاجة بهم إلى النَّظر في الإسناد وأحوال الرواة وعلل الحديث والجرح والتعديل، ولا إلى النَّظر في قواعد الأصول وأوضاع الأصوليين، بل قد غنوا عن ذلك كله، فليس في حقِّهم إلا أمران:

- أحدهما: قال اللَّه -تعالى- كذا، وقال رسوله كذا.

- والثاني: معناه كذا وكذا، وهم أسعد الناس بهاتين المقدمتين، وأحظى الأمة بهما، فقواهم متوفِّرة مجتمعة عليهما.

حال المتأخرين

      وأمَّا المتأخرون فقواهم متفرقة، وهممهم متشعِّبة، فالعربية وتوابعها قد أخذت من قوى أذهانهم شعبة، والأصول وقواعدها قد أخذت منها شعبة، وعلم الإسناد وأحوال الرواة قد أخذ منها شعبة، وفكرهم في كلام مصنِّفيهم وشيوخهم على اختلافهم وما أرادوا به قد أخذ منها شعبة، إلى غير ذلك من الأمور، فإذا وصلوا إلى النُّصوص النبوية إنْ كان لهم هممٌ تسافر إليها وصلوا إليها بقلوبٍ وأذهانٍ قد كلَّتْ من السَّير في غيرها، وأوهن قواها مواصلةُ السرى في سواها، فأدركوا من النصوص ومعانيها بحسب تلك القوة، وهذا أمرٌ يحس به النَّاظر في مسألة إذا استعمل قوى ذهنه في غيرها، ثم صار إليها وَافَاها بذهن كال وقوة ضعيفة، وهذا شأن من استعمل قواه في الأعمال غير المشروعة، تَضعُف قوته عند العمل المشروع، كمن استفرغ قوَّته في السَّماع الشيطاني، فإذا جاء قيام الليل قام إلى ورده بقوة كالَّة، وعزيمة باردة، وكذلك من صرف قوى حبِّه وإرادته إلى الصور أو المال أو الجاه، فإذا طالب قلبه بمحبة اللَّه فإن انجذب معه انجذب بقوة ضعيفة قد استفرغها في محبة غيره، فمن استفرغ قوى فكره في كلام الناس، فإذا جاء إلى كلام اللَّه وكلام رسوله جاء بفكرة كالَّةٍ فأعطى بحسب ذلك.

قوى الأذهان الصحابة وصفائِها

      والمقصود أنَّ الصَّحابة أغناهم اللَّه -تعالى- عن ذلك كله، فاجتمعت قواهم على تينك المقدمتين فقط، هذا إلى ما خصوا به من قوى الأذهان وصفائِها، وصحتها وسرعة إدراكها، وكماله، وكثرة المعاون، وقلة المعاوق، وقرب العهد بنور النُّبوة، والتلقي من تلك المشكاة النَّبوية، فإذا كان هذا حالنا وحالهم فيما تميَّزوا به علينا وما شاركناهم فيه فكيف نكون نحن أو شيوخنا أو شيوخهم أو من قلَّدناه أسعد بالصَّواب منهم في مسألة من المسائل؟ ومن حدّث نفسه بهذا فليعرِّها من الدين والعلم، واللَّه المستعان».

سلامة فطر الصحابة

      ومن هذا أيضًا أنَّ الصحابة تلقوا الوحي بفطر سليمة لم تختلط بثقافات وافدة، ولا فلسفات يونانيَّة، ولا علوم كلاميَّة، ولم تظهر الأقوال البدعيَّة، والأصول الكلامية، فكان ذلك مقتضيا لفهمهم الصَّحيح، إذ نجوا من تأثير العلوم الوافدة، وهي خصيصة لم تتوفر لغيرهم، يقول عبدالرحمن الزنيدي: «لقد كانت أمِّيتهم ومن ثمَّ فطريتهم عاملًا مهما في أن تشرق العقيدة في نفوسهم، وترسخ فيها، طاردة كل غبش كان يساورها قبل ذلك، ومن ثمَّ أصبحت هذه العقيدة بمستلزماتها الإيمانية هي المهيمن الوحيد، والمعيار الحاكم على ما يرد على الإنسان من أفكار وهواجس، وهذا لم يتهيأ لسواهم ممَّن أتى بعدهم عندما حدث الامتزاج الثقافي بين المسلمين والأمم الأخرى، إلا من احتمى بمنهجهم وسلك سبيلهم».

الأصل السَّادس: زكاء نفوسهم وقربهم من الحق

      إنَّ الصحابة الكرام كانوا أزكى الناس قلوبًا، وأطهرهم أفئدة، وأكثرهم إرادةً للحق، ومن كان بهذه الحال في إرادة الخير، فإنَّه سيتحرَّى في الفهم الصَّحيح للدين حتى يعمل به، وقد اعتمد على هذا الأصل أهلُ السُّنة والجماعة وعلى رأسهم الصَّحابة الكرام، فعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «إنَّ الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب العباد، فاصطفاهُ لنفسه، فابتعثهُ برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمَّد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيِّه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيئ»، وحين أراد ابن عمر - رضي الله عنه - بيان اتباع الصحابة علَّق ذلك بهذا المعنى فقال: «من كان مستنًّا فليستنَّ بمن قد مات، أولئك أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم -؛ كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ونقل دينه، فتشبَّهوا بأخلاقهم وطرائقهم؛ فهم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، كانوا على الهدى المستقيم»..

التوفيق للفهم الصحيح

     ولا نعني بهذا أنَّ كل من كان تقيًّا مطيعًا لله فإنَّه بالضرورة سيوفق للفهم الصحيح، وهذا غير صحيح بلا شك، لكن نريد أنَّ الصحابة حين حملوا هذه الصفات العظيمة كانوا أقرب إلى إصابة الحق ممَّن لم تقم في قلوبهم هذه الإرادات، فإن جمعنا إلى ذلك: الأصول السابقة التي ذكرناها، قطعنا بأن فهمهم هو الفهم الصحيح، وفي بيان هذا يقول الأوزاعي: «لو كان هذا خيرًا ما خصصتم به دون أسلافكم، فإنَّه لم يدخر عنهم خير خبئ لكم دونهم لفضلٍ عندكم، وهم أصحاب نبينا - صلى الله عليه وسلم -، والذين اختارهم الله -عز وجل-، وبعثهُ فيهم، ووصفه بهم، فقال -جل وعلا-: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (الفتح: 29) إلى آخر السورة».

إصابة الصحابة للحق

     فالأوزاعي هنا لم يعتمد على هذا الأصل فقط، وإنَّما عضده بغيره بأن الله لا يمكن أن يمنع الخير عنهم ويوفق غيرهم له وهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأزكاهم قلوبا، ولأجل تلك الإرادات في قلوبهم جازاهم الله بإصابة الحق في فهمهم، يقول ابن تيمية -رحمه الله-: «ومن المستقر في أذهان المسلمين: أنَّ ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء هم الذين قاموا بالدِّين علمًا وعملًا، ودعوةً إلى الله والرَّسول، فهؤلاء أتباع الرسول حقًّا، وهم بمنزلة الطائفة الطَّيبة من الأرض التي زكت فقبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير؛ فزكت في نفسها وزكى الناس بها.

جمعوا بين البصيرة والقوَّة

     وهؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين والقوَّة على الدعوة، ولذلك كانوا ورثة الأنبياء الذين قال الله -تعالى- فيهم: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} (ص:45)، فالأيدي: القوة في أمر الله، والأبصار: البصائر في دين الله، فبالبصائر يدرك الحق ويعرف، وبالقوة يتمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه. فهذه الطَّبقة كان لها قوَّة الحفظ والفهم والفقه في الدين والبصر والتَّأويل، ففجرت من النصوص أنهار العلوم، واستنبطت منها كنوزها، ورزقت فيها فهمًا خاصًّا»، وفي هذا المعنى أيضًا يقول ابن القيم -رحمه الله-: «أمَّا المدارك التي شاركناهم فيها من دلالات الألفاظ والأقيسة فلا ريب أنَّهم كانوا أبر قلوبًا، وأعمق علمًا، وأقل تكلفا، وأقرب إلى أن يوفقوا فيها لما لم نوفق له نحن؛ لما خصهم الله -تعالى- به من توقد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك وسرعته، وقلة المعارض أو عدمه، وحسن القصد، وتقوى الرب -تعالى-»، فانظر كيف استخدم ابن القيم -رحمه الله- لفظة: «أقرب إلى أن يوفقوا» وذلك لما بينَّاه سابقا من أن هذا الأصل لا يقوم وحده؛ إذ ليس بالضرورة أن يكون كل متقٍ مصيبًا للحق.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك