رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: إبراهيم بن محمد صديق 20 سبتمبر، 2022 0 تعليق

الأصول العقليَّة الدالة على وجوب تقديم فهم الصحابة على من جاء بعدهم (4)

ما زال حديثنا موصولاً عن الأصول العقليَّة الدالة على وجوب تقديم فهم الصحابة على كل من جاء بعدهم، وتحدثنا عن الأصل الأول وهو التَّعايش مع الوحي، وهذه ميزة اختصوا بها دون غيرهم، حيث تلقوا القرآن غضا طريا من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، ثم ذكرنا الأصل الثاني وهو: بناؤهم المنهجي ووجود الضامن بمعني أن الصحابة -رضوان الله عليهم- بنوا فهمهم على معايشة النص الشرعي ومعرفة كل ما يحيط به، والأصل الثالث: الاختصاص والملازمة، والأصل الرابع: السلامة اللغوية، والأصل الخامس: بعدهم عن الأثقال المعرفية، والأصل السَّادس: زكاء نفوسهم وقربهم من الحق، واليوم نستكمل الحديث عن هذه الأصول.

الأصل السابع: استحالة خلوِّ عصرهم من الحق

ويعني أنَّه إذا تعارض فهم الصحابة بفهم من بعدهم، فإنَّنا بين أمرين:

- إمَّا أن نقدم فهم الصحابة، لما سبق من بيان الأصول الشرعية والعقلية.

- أو أن نقدِّم فهم من بَعدهم مع بُعدهم عن مصدر التلقي، واختلاط أفهامهم ببدع كلامية، وفلسفات وضعية، مع ضعفٍ في اللغة.

      ولا يصحُّ عقلًا أن نقدِّم فهم الخلف ونترك فهم الصحابة، وذلك لما مرَّ بنا من بيان فضلهم، وحجيَّة فهمهم، بناء على الأصول الشرعية والعقلية، وعدم إمكانية أن يمنعوا من الخير كله، ويكونوا على باطل، بينما يتوصل إليه من جاء بعدهم؛ ولهذا كل العلماء إنمَّا يقدمون فهم الصحابة، ويبينون أنَّهم عالة عليه، يقول ابن تيمية -رحمه الله-: «ولا تجد إمامًا في العلم والدين كمالك والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة والشَّافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، ومثل الفضيل بن عياض وأبي سليمان ومعروف الكرخي وأمثالهم إلَّا وهم مصرِّحون بأنَّ أفضل علمهم ما كانوا فيه مقتدين فيه بعلم الصحابة، وهم يرون أنَّ الصحابة فوقَهم في جميع أبواب الفضل والمناقب».

سبب تقديم فهم الصَّحابة

      إضافةً إلى هذا فإنَّنا نقدِّم فهم الصَّحابة؛ لأن عدم تقديم فهمهم يعني أنَّهم إمَّا لم يكونوا عالمين بالحق، وهذا محال، أو أنَّهم اعتقدوا غير الحق مع علمهم به، وهذا أبعد، وفي هذا يقول ابن تيمية -رحمه الله-: «ثمَّ من المحال أيضًا أن تكون القرون الفاضلة، القرن الذي بعث فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمَّ الذين يلونهم ثم الذين يلونهم كانوا غير عالمين، وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين؛ لأنَّ ضد ذلك إمَّا عدم العلم والقول، وإمَّا اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصِّدق، وكلاهما ممتنع.

      أمَّا الأول فلأنَّ من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم، أو نهمة في العبادة يكون البحث عن هذا الباب، والسؤال عنه، ومعرفة الحقِّ فيه، أكبر مقاصده، وأعظم مطالبه، أعني: بيان ما ينبغي اعتقادُه، لا معرفة كيفيَّة الرب وصفاته. وليست النُّفوس الصحيحة إلى شيءٍ أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر، وهذا أمر معلومٌ بالفطرة الوجدية، فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضى الذي هو من أقوى المقتضيات أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السَّادة في مجموع عصورهم؟ هذا لا يكاد يقع في أبلد الخلق، وأشدهم إعراضًا عن الله، وأعظمهم إكبابًا على طلب الدنيا، والغفلة عن ذكر الله، فكيف يقع من أولئك؟! وأمَّا كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق أو قائليه، فهذا لا يعتقده مسلمٌ ولا عاقلٌ عرف حال القوم».

الأصل الثامن: تراجع مخالفيهم عن منهجياتهم

     فإنَّ كثيرًا من أساطين المتكلمين ممَّن أفنوا أعمارهم في تتبع الأصول الكلاميَّة، والاعتماد عليها في تقرير العقائد، وأمضوا حياتهم في الجدال والحجاج والدِّفاع عن فهمهم الذي بنوه على تلك الأصول، قد رجعوا إلى فهم السلف في آخر عمرهم، وشواهد ذلك كثيرة جدًّا، ومن أشهر هؤلاء: أبو الوليد الكرابيسي؛ حيث قال حين حضرته الوفاة: «هل تعلمون أحدًا أعلم بالكلام مني؟ قالوا: لا. قال: فتتهموني؟ قالوا: لا. قال: فإنِّي أوصيكم بما عليه أصحاب الحديث، فإني رأيت الحق معهم».

كلام الجويني

      واقرأ هذا الكلام للجويني بعد صولاتٍ وجولاتٍ مع علم الكلام، يقول: «قد اختلفَ مسالك العلماء في الظَّواهر التي وردت في الكتاب والسُّنة، وامتنع على أهل الحق اعتقاد فحواها، وإجراؤها على موجب ما تبتدره أفهام أرباب اللسان منها، فرأى بعضهم تأويلها، والتزم هذا المنهج في آي الكتاب، وما يصحُّ من سنن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب -تعالى-، والذي نرتضيه رأيًا، وندين الله به عقدًا، اتباع سلف الأمَّة، فالأولى الاتباع، وترك الابتداع، والدليل السَّمعي القاطع في ذلك، أن إجماع الأمة حجة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة».

      ويقول أيضًا: «قرأت خمسين ألفًا في خمسين ألفًا، ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام، كل ذلك في طلب الحق، وكنت أهرب في سالف الدَّهر من التَّقليد، والآن فقد رجعت إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحقُّ بلطيف بره، فأموت على دين العجائز، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل على كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، فالويل لابن الجويني».

الطرق الكلاميَّة والمناهج الفلسفيَّة

      ويقول الرازي: «لقد تأمَّلت الطرق الكلاميَّة، والمناهج الفلسفيَّة، فما رأيتها تشفي عليلًا، ولا تروي غليلًا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5)، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (فاطر: 10)، وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11)، ومن جرَّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي».

       ولا نريد الإطالة بذكر شواهد أخرى، فهؤلاء رؤوس المتكلمين، وهذه أقوالُهم في تراجعهم عن منهجيَّتهم، وتقديمهم منهج السلف وعلى رأسهم الصَّحابة الكرام، بينما في المقابل نجد أنَّ السَّلف لم يتراجعوا عن عقيدةٍ قط! يقول ابن تيمية -رحمه الله-: «تجد أهل الكلام أكثر النَّاس انتقالًا من قولٍ إلى قول، وجزمًا بالقول في موضع، وجزمًا بنقيضه وتكفير قائله في موضع آخر، وهذا دليل عدم اليقين، فإنَّ الإيمان كما قال فيه قيصر لما سأل أبا سفيان عمَّن أسلم مع النبي -[-: هل يرجع أحدٌ منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا، قال وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد؛ ولهذا قال بعض السَّلف: من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التَّنقل.

      وأمَّا أهل السَّنة والحديث فما يُعلم أحدٌ من علمائهم ولا صالح عامَّتهم رجع قط عن قوله واعتقاده، بل هم أعظم النَّاس صبرًا على ذلك، وإن امتحنوا بأنواع المحن، وفتنوا بأنواع الفتن، وهذه حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين كأهل الأخدود ونحوهم، وكسلف هذه الأمة من الصَّحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة»، فثباتهم على أصولهم وعدم تناقضهم واضطرابهم يؤكد متانة هذا الاعتقاد واتساقه، وصحته.

التَّجربة التاريخية

       أثبتت التَّجربة التاريخية التي امتدت بالأمَّة أربعة عشر قرنًا صحَّة هذا المسلك، فإنَّ علم الصَّحابة وفهمهم للدين وأحكامه، لا يزال هو الثَّابت دون أن يظهر فيه خللٌ أو اضطراب، وهو المتَّسق مع الشريعة كلها، فلا تناقض ولا تضاد، وعلى هذا استند الأصبهاني -رحمه الله- في بيان أنَّ أهل الحديث هم الذين على حق، يقول: وممَّا يدلُّ على أنَّ أهل الحديث هم على الحق: أنَّك لو طالعت جميع كتبهم المصنَّفة من أولهم إلى آخرِهم، قديمِهم وحديثِهم، مع اختلاف بلدانهم وزمانهم، وتباعد ما بينهم في الدِّيار، وسكون كل واحد منهم قطرًا من الأقطار، وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرةٍ واحدة، ونمطٌ واحدٌ، يجرون فيه على طريقةٍ لا يحيدون عنها، ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد، ونقلهم واحد، لا ترى بينهم اختلافًا، ولا تفرقًا في شيء ما وإن قل، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم، ونقلوه عن سلفهم، وجدته كأنَّه جاء من قلبٍ واحد، وجرى على لسانٍ واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟

      قال الله -تعالى-: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (النساء: 82)، وقال -تعالى-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103).

حال أهل الأهواء والبدع

      وأمَّا إذا نظرت إلى أهل الأهواء والبدع، رأيتهم متفرقِّين مختلفين، أو شيعًا وأحزابًا، لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقةٍ واحدة في الاعتقاد، يبدع بعضهم بعضًا، بل يرتقون إلى التكفير، يكفر الابن أباه، والرجل أخاه، والجار جاره، تراهم أبدًا في تنازع وتباغض واختلاف، تنقضي أعمارهم ولما تتفق كلماتهم {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} (الحشر: 14).

      ولأجل هذا المعنى كان المتأخرون في باب العلم بالدين أقل تحقيقًا من المتقدمين في الجملة، يقول ابن تيمية -رحمه الله-: «ومن آتاه الله علمًا وإيمانًا، علم أنه لا يكون عند المتأخرين من التَّحقيق إلا ما هو دون تحقيق السَّلف، لا في العلم ولا في العمل، ومن كان له خبرة بالنَّظريات والعقليات وبالعمليَّات علم أنَّ مذهب الصحابة دائما أرجح من قول من بعدهم، وأنَّه لا يبتدع أحد قولًا في الإسلام إلا كان خطأ، وكان الصواب قد سبق إليه من قبله».

      وبهذا العرض يتبين لنا أنَّ حجيَّة فهم الصحابة هو ما تقرِّره الأدلة الشرعية، وتؤكده الأصول العقلية، وأنَّ السلامة والنجاة إنَّما هو باتباع فهمهم فيما أجمعوا فيه.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك