الأشهر الحرم تعظيمها من تعظيم الله وإجلالِه
قال الله -تعالى-: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (القصص 68)، فالله -سبحانه وتعالى- يخلق ما يشاء ويختار، ويفضل بعض خلقه على بعض، فأفضل البقاع المساجد، وأفضلها المسجدُ الحرام. وأفضل البشر الرسلُ والأنبياءُ عليهم السلام. وأفضل القرون قرنُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخيرُ هذه الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم - هم صحابتُه الكرام -رضي الله عنهم أجمعين.
وقد اختار الله من شهور العام أربعةً حُرُمًا، فقال -تعالى-: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} (التوبة 36). وبيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الأربعةَ الحُرُمَ فقال: «السنةُ اثنا عشر شهرًا، منها أربعةٌ حُرُمٌ، ثلاثةٌ مُتوالياتٌ: ذو القَعدةِ وذو الحِجَّةِ والـمُحرَّمُ، ورجبُ مُضر، الذي بين جُمادى وشعبانَ» (متفق عليه).
أهل الجاهلية
لكن أهل الجاهلية استعملوا النسيء في الأشهر الحرم، كما قال -تعالى-: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (التوبة 37). فكان ذلك من جملة بدعهم الباطلة، أنهم لما رأوا احتياجهم للقتال، في بعض أوقات الأشهر الحرم، رأوا بأهوائهم وآرائهم الفاسدة أن يحافظوا على عدة الأشهر الحرم، التي حرم اللّه القتال فيها، وأن يؤخروا بعض الأشهر الحرم، أو يقدموه، ويجعلوا مكانه من أشهر الحل ما أرادوا، فإذا جعلوه مكانه أحلوا القتال فيه، وجعلوا الشهر الحلال حرامًا، فهذا -كما أخبر اللّه عنهم- أنه زيادة في كفرهم وضلالهم، وهذا من أخطر الخطر! فالكفر بدين الله كفر، والتلاعب بأحكام الله زيادة في الكفر.
تعظيم ما عظم الله
لكن المؤمنين يعظمون ما عظم الله، ويقفون عند حدود الله، فلا يزيدون في دين الله ولا ينقصون، ولا يزيدون ولا يبتدعون. وشعارهم في ذلك {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} كما قال -تعالى-: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (النور 51)، وهم بحكم الله راضون، وله مُسَلِّمون، كما قال -سبحانه-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء 65).
أولى الأشهرِ الحرم
وتظلنا الآن أولى هذه الأشهرِ الحرم، فنحن الآن في شهر ذي القَعدةِ، {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}. ولئن كان الظلم حراما في كل حين، فهو في الأشهر الحرم أشدُّ حرمة، فأكد الله -تعالى- علينا النهيَ عن أن نظلم أنفسنا، ومن لم يحرص على نجاة نفسه فهو ظالم لها، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم 6).
ظلم النفس
وظلم النفس يكون بارتكاب الذنب في حق النفس، أو في حق الغير. أما في حق النفس فأعظم الظلم هو الشرك بالله العظيم. قال -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان 13). والشرك هو الذنب الذي لا يغفره الله -تعالى- إذا مات الإنسان عليه والعياذ بالله. قال الله -عز وجل-: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (النساء 48).
الذنوب والمعاصي
ثم تأتي الذنوب والمعاصي التي هي ظلم للنفس أيضا، لكنها دونَ الشرك، ثم ظلمُ العباد بعضُهم بعضا، فهذا ظلم لا يتركه الله حتى يقتص للمظلوم من الظالم، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: (لتُؤدُّنَّ الحقوقَ إلى أهلِها يومَ القيامةِ، حتَّى يُقادَ للشَّاةِ الجلْحاءِ من الشَّاةِ القرْناءِ} (رواه مسلم)، والجلحاء هي التي لا قرنَ لها، حتى الشاة لا يُترك حقها، فما ظنك بحقوق عباد الله؟ فاحرص على أداء الحقوق، وألا يكون لأحد عندك مظلمة، مِن قبل أن يأتي ذلك اليومُ الذي تقف فيه بين يدي الله -سبحانه-، ولا يقبل المظلومُ منك إلا أن يأخذ من حسناتك، أو تأخذ من سيئاته، أجارنا اللهُ وإياكم من ذلك. قال النبي الناصح لأمته - صلى الله عليه وسلم-: «من كانت عنده مَظلمةٌ لأخيه فليتحلَّلْه منها، فإنَّه ليس ثَمَّ دينارٌ ولا دِرهمٌ، من قبلِ أن يُؤخَذَ لأخيه من حسناتِه، فإن لم يكُنْ له حسناتٌ أُخذ من سيِّئاتِ أخيه فطُرِحت عليه» (رواه البخاري).
أنواعُ الظلم
فهذا شهر حرام من الأشهر الحرم، {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}. وتلكم هي أنواعُ الظلم، فظلم لا يغفر، وظلم يغفر، وظلم لا يترك. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الظلمُ ثلاثةٌ: فظُلمٌ لا يَغفرُهُ اللهُ، وظلمٌ يَغفرُهُ، وظلمٌ لا يَتركُهُ، فأمّا الظلمُ الذي لا يغفرُهُ اللهُ فالشِّركُ، قال اللهُ: {إِنَّ الْشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}. وأمّا الظلمُ الذي يغفرُهُ اللهُ فَظُلْمُ العبادِ أنفسَهمْ فيما بينهُمْ وبينَ ربِّهمْ. وأمّا الظلمُ الّذي لا يتركُهُ اللهُ فظُلمُ العبادِ بعضُهمْ بعضًا، حتى يَدِينَ لبعضِهِمْ من بعضٍ» (صحيح الجامع 3961)، فاتقوا الله، ولا تظلموا أنفسكم، ولا تظالموا، واتقوا ذلك في هذه الأشهر الحرم خاصة.
أربعة أشهر
قال -تعالى-: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} (التوبة 36)، في تفسير ابنِ كثيرٍ رحمه الله (للآية 36 من سورة التوبة) عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله -تعالى-: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}، قال: في كلهن (أي: في كل أشهر العام)، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حراما، وعظّم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعملَ الصالحَ والأجرَ أعظم، وعن قتادة -رحمه الله- في قوله -تعالى-: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}، قال: إن الظّلم في الأشهر الحرم أعظمَ خطيئةً ووِزرًا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيما، ولكنّ الله يعظّم من أمره ما يشاء. وقال: إن الله اصطفى صفايا من خلقه: اصطفى من الملائكة رسلا، ومن الناس رسلا، واصطفى من الكلام ذِكرَه، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضانَ والأشهرَ الحرم، واصطفى من الأيام يومَ الجمعة، واصطفى من الليالي ليلةَ القدر، فعظموا ما عظّم الله،{ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} (الحج 30)، {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج 32). فتعظيم شعائر الله صادر من تقوى القلوب، فالمعظم لها يبرهن على تقواه وصحة إيمانه بالله؛ لأن تعظيمها تابع لتعظيم الله وإجلالِه -جل جلالُه.
لاتوجد تعليقات