الأسباب السبعة لوقوع الخطأ في فتاوى العلماء (1)
نعلم جميعًا أنه لا يوجد أحد من ذوي العلم الموثوق بعلمهم وأمانتهم ودينهم يخالف ما دلَّ عليه كتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم عن عمد وقصد؛ لأن من اتَّصفوا بالعلم والديانة فلابد أن يكون رائدهم الحق، ومَن كان رائده الحق فإن الله سييسِّره له، واستمعوا إلى قوله -تعالى-: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}، {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}، ولكن مثل هؤلاء الأئمة يمكن أن يحدث منهم الخطأ في أحكام الله -تبارك وتعالى- وهذه الأخطاء في الفروع وليست في الأصول، وهذا الخطأ أمر لابدَّ أن يكون؛ لأن الإنسان كما وصفه الله -تعالى- بقوله: {وَخُلِقَ الإِنسَـنُ ضَعِيفاً}.
والإنسان ضعيف في علمه وإدراكه، وهو ضعيف في إحاطته وشموله؛ ولذلك لابدَّ أن يقع الخطأ منه في بعض الأمور، ونحن نجمل ما أردنا أن نتكلم عنه من أسباب الخطأ من أهل العلم في الأسباب الآتية السبعة، مع أنها في الحقيقة أسباب كثيرة، وبحر لا ساحل له.
عدم بلوغ الدليل
- السبب الأول: أن يكون الدليل لم يبلغ هذا المخالف الذي أخطأ في حكمه، وهذا السبب ليس خاصًّا فيمن بعد الصحابة، بل يكون في الصحابة ومَن بعدهم. ونضرب مثالين وَقَعَا للصحابة من هذا النوع.
- الأول: ما ثبت في صحيح البخاري وغيره حينما سافر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام، وفي أثناء الطريق ذُكر له أن فيها وباء وهو الطاعون؛ فوقف وجعل يستشير الصحابة -رضي الله عنهم-، فاستشار المهاجرين والأنصار، واختلفوا في ذلك على رأيين، وكان الأرجح القول بالرجوع، وفي أثناء هذه المداولة والمشاورة جاء عبدالرحمن بن عوف، وكان غائباً في حاجة له؛ فقال: إن عندي من ذلك عِلماً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه، وإن وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه»؛ فكان هذا الحكم خافياً على كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، حتى جاء عبدالرحمن فأخبرهم بهذا الحديث.
مثال آخر: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبدالله ابن عباس -رضي الله عنهما- يريان أن الحامل إذا مات عنها زوجها تعتدّ بأطول الأجلين، من أربعة أشهر وعشر، أو وضع الحمل، فإذا وضعت الحمل قبل أربعة أشهر وعشر لم تنقض العدة عندهما وبقيت حتى تنقضي أربعة أشهر وعشر، وإذا انقضت أربعة أشهر وعشر من قبل أن تضع الحمل بقيت في عدتها حتى تضع الحمل؛ لأن الله -تعالى- يقول: {وَأُوْلَـتُ الاَْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.
ويقول: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}، وبين الآيتين عموم وخصوص وجهي، وطريق الجمع بين ما بينهما عموم وخصوص وجهي، أن يؤخذ بالصورة التي تجمعهما، ولا طريق إلى ذلك إلا ما سلكه علي وابن عباس -رضي الله عنهما-، ولكن السُّنَّة فوق ذلك. فقد ثبت عن رسول الله[ في حديث سبيعة الأسلمية أنها نفست بعد موت زوجها بليال؛ فأذن لها رسول الله أن تتزوج»، ومعنى ذلك أننا نأخذ بآية سورة الطلاق التي تسمَّى سورة النساء الصغرى، وهي عموم قوله -تعالى-: {وَأُوْلَـتُ الاَْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، وأنا أعلم علم اليقين أن هذا الحديث لو بلغ عليًّا وابن عباس لأخذا به قطعاً، ولم يذهبا إلى رأيهما.
عدم الثقة بالناقل
- السبب الثاني: أن يكون الحديث قد بلغ الرجل ولكنه لم يثق بناقله، ورأى أنه مخالف لما هو أقوى منه، فأخذ بما يراه أقوى منه، ونحن نضرب مثلاً أيضاً، ليس فيمن بعد الصحابة، ولكن في الصحابة أنفسهم، فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها- طلَّقها زوجها آخر ثلاث تطليقات، فأرسل إليها وكيله بشعير نفقة لها مدة العدة، ولكنها سخطت الشعير وأبت أن تأخذه، فارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرها النبي: أنه لا نفقة لها ولا سكنى؛ وذلك لأنه أبانها، والمبانة ليس لها نفقة ولا سكنى على زوجها إلا أن تكون حاملاً؛ لقوله -تعالى-: {وَإِن كُنَّ أُوْلَـتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.
عمر رضي الله عنه -ناهيك عنه فضلاً وعلماً- خفيت عليه هذه السُّنَّة، فرأى أن لها النفقة والسكنى، وردَّ حديث فاطمة باحتمال أنها قد نسيت؛ فقال: أنترك قول ربنا لقول امرأة لا ندري أذكرت أم نسيت؟ وهذا معناه أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لم يطمئن إلى هذا الدليل، وهذا كما يقع لعمر ومن دونه من الصحابة ومن دونهم من التابعين، يقع أيضاً لمَن بعدهم من أتباع التابعين، وهكذا إلى يومنا هذا، بل إلى يوم القيامة أن يكون الإنسان غير واثق من صحة الدليل، وكم رأينا من أقوال لأهل العلم فيها أحاديث يرى بعض أهل العلم أنها صحيحة فيأخذون بها، ويراها الآخرون ضعيفة، فلا يأخذون بها، نظراً لعدم الوثوق بنقلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
نسيان العلم
- السبب الثالث: أن يكون الحديث قد بلغه، ولكنه نسيه، وجلَّ من لا ينسى، كم من إنسان ينسى حديثاً، بل قد ينسى آية! رسول الله صلى الله عليه وسلم : «صلَّى ذات يوم في أصحابه فأسقط آية نسياناً»، وكان معه أُبي بن كعب رضي الله عنه، فلمَّا انصرف من صلاته قال: «هلا كنت ذَكَّرتنيها»، وهو الذي ينزل عليه الوحي، وقد قال له ربه: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى}.
ومن هذا -أي مما يكون الحديث قد بلغ الإنسان ولكنه نسيه- قصة عمر بن الخطاب مع عمار بن ياسر -رضي الله عنهما- حينما أرسلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة، فأجنبا جميعًا عمار وعمر، أما عمار فاجتهد ورأى أن طهارة التراب كطهارة الماء، فتمرغ في الصعيد كما تمرغ الدابة، لأجل أن يشمل بدنه التراب، كما كان يجب أن يشمله الماء وصلَّى، أما عمر رضي الله عنه فلم يصل.
ثم أتيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرشدهما إلى الصواب، وقال لعمار: «إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا»، وضرب بيديه الأرض مرة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه. وكان عمار رضي الله عنه يحدث بهذا الحديث في خلافة عمر، وفيما قبل ذلك، ولكن عمر دعاه ذات يوم وقال له: ما هذا الحديث الذي تحدث به؟ فأخبره وقال: أما تذكر حينما بعثنا رسول الله في حاجة فأجنبنا؛ فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمرغت في الصعيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنما كان يكفيك أن تقول كذا وكذا». ولكن عمر لم يذكر ذلك، وقال: اتق الله يا عمار، فقال له عمار: إن شئت بما جعل الله عليَّ من طاعتك ألا أُحدِّث به فعلت؛ فقال له عمر: نوليك ما توليت ـ يعني فحدِّث به الناس؛ فعمر نسي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم جعل التيمم في حال الجنابة، كما هو في حال الحدث الأصغر.
وقد تابع عمر على ذلك عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ، وحصل بينه وبين أبي موسى -رضي الله عنهما- مناظرة في هذا الأمر، فأورد عليه قول عمار لعمر؛ فقال ابن مسعود: ألم تر أن عمر لم يقنع بقول عمار، فقال أبوموسى: دعنا من قول عمار، ما تقول في هذه الآية؟ -يعني آية المائدة- فلم يقل ابن مسعود شيئاً، ولكن لا شك أن الصواب مع الجماعة الذين يقولون أن الجُنُب يتيمم، كما أن المحدث حدثاً أصغر يتيمم، والمقصود أن الإنسان قد ينسى فيخفى عليه الحكم الشرعي؛ فيقول قولاً يكون به معذوراً لكن مَن علِم الدليل فليس بمعذور. هذان سببان.
الفهم خلاف المراد
- السبب الرابع: أن يكون بلغه وفهم منه خلاف المراد، ونضرب لذلك مثالين، الأول من الكتاب، والثاني من السُّنَّة:
فمن القرآن، قوله -تعالى-: {وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لَـامَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً...}. اختلف العلماء -رحمهم الله- في معنى {أَوْ لَـامَسْتُمُ النِّسَآءَ}؛ ففهم بعضٌ منهم أن المراد مطلق اللمس، وفهم آخرون: أن المراد به اللمس المثير للشهوة، وفهم آخرون أن المراد به الجِماع، وهذا الرأي رأي ابن عباس -رضي الله عنهما.
وإذا تأمَّلت الآية وجدت أن الصواب مع مَن يرى أنه الجِماع؛ لأن الله -تبارك وتعالى- ذَكَرَ نوعين في طهارة الماء، طهارة الحدث الأصغر والأكبر؛ ففي الأصغر قوله: {فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ}، أما الأكبر فقوله: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ...}. وكان مقتضى البلاغة والبيان أن يُذكر أيضاً موجبا الطهارتين في طهارة التيمم؛ فقوله -تعالى-: {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُم مِّنَ الْغَائِطِ} إشارة إلى موجب طهارة الحدث الأصغر.. وقوله: {أَوْ لَـمَسْتُمُ النِّسَآءَ}، إشارة إلى موجب طهارة الحدث الأكبر، ولو جعلنا الملامسة هنا بمعنى اللمس، لكان في الآية ذِكْر موجبين من موجبات طهارة الحدث الأصغر، وليس فيها ذكر لشيء من موجبات طهارة الحدث الأكبر، وهذا خلاف ما تقتضيه بلاغة القرآن؛ فالذين فهموا من الآية أن المراد به مطلق اللمس قالوا: إذا مسَّ إنسان ذكرٌ بشرةَ الأنثى انتقض وضوؤه، أو إذا مسها لشهوة انتقض، ولغير شهوة لا ينتقض، والصواب عدم الانتقاض في الحالين، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّل إحدى نسائه، ثم ذهب إلى الصلاة ولم يتوضأ، وقد جاء من طرق يقوي بعضها بعضاً.
ومن السُّنَّة: لمَّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الأحزاب، ووضع عدَّة الحرب جاءه جبريل فقال له: إنا لم نضع السلاح فاخرج إلى بني قريظة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالخروج، وقال: «لا يصلينَّ أحدٌ العصر إلا في بني قريظة» الحديث؛ فقد اختلف الصحابة في فهمه؛ فمنهم مَن فهم أن مراد الرسول المبادرة إلى الخروج حتى لا يأتي وقت العصر إلا وهم في بني قريظة؛ فلمَّا حان وقت العصر وهم في الطريق صلوها ولم يؤخروها إلى أن يخرج وقتها، ومنهم مَن فهم: أن مراد رسول الله ألا يصلوا إلا إذا وصلوا بني قريظة فأخَّروها حتى وصلوا بني قريظة فأخرجوها عن وقتها.
ولا ريب أن الصواب مع الذين صلوا الصلاة في وقتها؛ لأن النصوص في وجوب الصلاة في وقتها محكمة، وهذا نصٌ مشتبه، وطريق العلم أن يحمل المتشابه على المحكم، إذاً من أسباب الخلاف أن يفهم من الدليل خلاف مراد الله ورسوله، وذلك هو السبب الرابع. وللحديث بقية إن شاء الله
لاتوجد تعليقات